القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

حكاية لم تروها شهرزاد المتقاعدون

95

بقلم المربّي _شفيق بن بشير غربال من صفاقس

متابعة عبدالله القطاري من تونس 

بلغني أيّها الملك الرّشيد ْ ، الفاعل في مُلْكه ما يريد ْ ، والكرسيّ من تحته لا يميد ْ ، والصَّولجان في قبضته أمضى من السّيف وأصلب من الحديد ْ ، أنّ قوما جاؤوا من بعدنا بِقُرون ابتدعوا أنظمةً في العمل ْ ، وسنّوا قوانين دقيقة تُنهي الأجل ْ ، وشاعت لديهم مرحلة لم نكن نعلمها سمَّوْها التّقاعد ْ ، تفنَّنوا في الازدراء بها فقالوا : مُت ..ْ قاعد ْ ، وقيل : مَيّت .. قاعدْ . 

اعلم يا مولاي أنّ هؤلاء القوم بلغوا في الحضارة درجة عليّة ْ ، وأنشأوا للعناية بالعامل الصّناديق الاجتماعيّة ْ ، يستخلصون منه معاليم شهرية ْينتفع بها في الفترة الشّغليّة ْ ، و تؤمّن له حقّه في المنظومة العلاجية ْ ، وتدّخر له ما هو حقّ لجرايته إن كان له في العمر بقيّة ،ْأو تؤول لقرينه إن غادر الحياة من أقصر ثنيّة ْ ،وقد اقْتَبَسُوا هذا النظام من الدول الغربية ْ ،حيث يُعلَى شأن الإنسان الأكرم ْ ،ويُميَّز عن الحيوان الأبكم ْ. ولكن ما أن يُحال العامل على شرف المهنة ْ ،حتّى يضع قدمه على أولى درجات المحنة ،ْحيث يُطوَى طيّ َالسِّجلّ للكتاب ْ ،وتُغلق في وجهه الأبواب ْ ، وتتذمّر منه الصناديق الاجتماعية إن طال به العُمُر ،ْ وتحوِّل حياته إلى جَحيم مُسْتَعِر ،ْ ولسان حالهم يقول: أعَسِيت َأن تطلب الخلود وتستمرْ !؟ ومن يحسّ بمحنة المتقاعد غيرُ نظرائه في الشوط الأخير !؟ ومن يستشعر مثلُهم وضعية المفروز الأسيرْ !؟ وحيث أنّ المتقاعد مدنيّ بطبعه لا يعترف برمي المنديلْ، ويرفض أن يحيا حياة الكسير الذليل ْ ، فقد اهتدى للأنشطة الجمعياتيّة ْ، تخرجه من روتين الحياة اليومية ْ، وتمكّنه من أداء أعمال تطوّعيّة ْ، يفيد بها المجموعة الوطنيّة ْبروح تضامنية إنسانية ْ. والحقَّ ، يا مولاي، أنهم يعامَلون بمِكْيالين : مكيال الوفاء والاعتراف بالجميل ْ، ْومكيال الجُحُود والتَّنمُّر الثقيل ْ. ويُتَّهمون بأنهم يعيشون زمنَهم وزمن َغيرهم غير َقليلْ ، و ليس للمُدَّعين في ذلك حُجّة ولا دليل ْ . 

وبما أنّ من المتقاعدين كفاءات وإطارات ْ ، مُلئت جراباتهم بالتجارب والخبرات ْ ،فقد أسّسوا جمعيات مدنية تعنى بالمتقاعدين والمتقاعدات ْ ، تتفق الجمعيات وإن تعدّدت على تقديم خدمات وأنشطة واتفاقيات ْ ، وتفنّد مقولة ” التقاعد وفاةْ ” ! و تبثّ عقلية ” نحن شباب حتّى المماتْ ” ! فكم من نفس أُنعِشَت بعد قنوطْ ! وكم من عزيمة أُذكِيَت بعد هبوط ْ! أليس التقاعد نهاية مرحلة شغليّة ْ وبداية مرحلة حياتيّة غنيّة ْ !؟ اسمع يا مولاي ما قاله أحدهم ممتدحا تلك المرحلة : 

 

نحن من بلغنا من العُمْر شبابَا 

طوَينا عقودا ما ذهبت يَبابا 

أنفقنا زمانا في طلب المعالي 

بذلنا النّفيس لا نرجو حسابا 

 نحن من جيل قويّ لا يَنْثَنِي 

خُضْنا الصِّعاب وذُقنا العَذابَا

لا السُّقْمُ نال من فوْر عزائمِنا 

 ولا أنقَصَ من ضميرنا نِصابا 

 ‏آمنّا بالشغل غراما و عقيدة 

 ‏ولم نَخْشَ من أنوائه رُهابا 

 ‏مكاتبنا لم تشكُ من تقاعسنا 

 ‏قضينا بها أوقاتا تِبْرًا عِذابا

هذه ، يا مولاي، صورة مما جاء من بعدنا ولم نر َ له عندنا نظير ْ. صورة فيها ما يُبهر وما يُثير ْ . وملتقانا مع سفر آخر إلى من يأتون بعدنا ويثيرون عُجْبنا .

 

 

 ‏

 ‏

قد يعجبك ايضا
تعليقات