القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

التضافر الأجناسي والانفتاح الدلالي قراءة في نص جنون للشاعرة التونسية ماجدة الظاهري

93

بقلم د _ جاسم خلف إلياس  

  بعيدا عن حدود المفاهيم لكل نوع أدبي، وصيغه التعبيرية، وتراكماته الكتابية، ومسألة نقاء النوع وهتك اشتراطاته الفنية، وتداخل الأنواع … وغيرها من الآليات التي أفرزتها النظريات النقدية، وقريبا من قراءة النص وكشف طرائق تشكيله، والمغامرة في مسارب تدليله، واعتمادا على الذائقة الوجدانية الخالصة، أقول:

افتتحت الشاعرة ماجدة الظاهري نصها المعنون بـ(جنون) بسرد حكائي، تغيّت فيه الذات الشاعرة الارتقاء من التعبير الذاتي إلى الأفق الموضوعي عبر الاقتراب من الواقع؛ بهدف فهم الفعل الإنساني في صراعاته الداخلية. إذ لجأت الشاعرة إلى وعيها بضرورة إثراء نصها بآليات من السرد، وانفتاحه على قدرات أكثر فاعلية عند التلقي. وربما أجد من الضرورة أن تبدأ هذه المقاربة من العتبة الأولى التي لا نريد تكرار واجترار ما نظّر لها النقاد وهي العنوان. 

ويبدو لنا أن منطق السرد في هذا النص، قد بدأ من العنوان، العنوان المتكون من صيغتين افتراضيتين: الأولى: مبتدأ حذف خبره، من أجل جذب انتباه القارئ، وإثراء حالة التأمل، وتركيز حالة الترقب لمزيد من الإخبار فيما يتعلق بالذات المجنونة. والثانية: خبر حذف مبتدأه للغاية ذاتها. وهو في الصيغتين يمتلك تعريفا واحدا، يتعلق بالتغيّرات التي تطرأ على الإنسان فتشلّ قدراته العقلية، وتخرجه عن السيطرة على نفسه، وكل ما يتعلق بحياته المعيشة، فتتمظهر أفكاره الشاذة، وسلوكياته المتمردة، في عالمه الخاص به. ولسنا هنا في مقاربة للجنون المحض، لكي نتوسع في أسبابه، وعلاماته، وأنواعه، وإنما تنصبّ مقاربتنا في الجنون الذي تمظهر في هذا النص الشعري، عبر انتقاء الجمل، والدخول في بنية شعرية تتداخل معها بنية سردية من أجل فتح مجالات التعدد الرؤيوي في بناء متن الحكاية:

((تُخرِجُ رأسَها من نافِذَة المُستَشفى))

تستهل الشاعرة ماجدة الظاهري نصها بحدث محوري عبر هذه الجملة السردية، وما سيتفرع عنه من أحداث متخيلة، في لغة شعرية شفيفة مسترسلة وعفوية، وهي تنشّط خبرات القارئ وذاكرته البصرية، إذ تطالعنا شخصية المجنونة بوصفها شخصية محورية، يروي أفعالها سارد عليم، فضلا عما تقوله هي عن ذاتها تلك الشخصية المجنونة. إذ يسعى هذا النص إلى تقديم حكاية قصيرة جدا (شخصية، ومكان، وحبكة، وإقفال … وغيرها) ، عبر توظيف بنى سردية لاحقة متجاورة ومكملة لبنى سردية سابقة. وتجلى هذا منذ السطر الثاني من النص، ونحن نكتشف أن المجنونة قد فشلت في سعيها إلى إخراج رأسها: 

((القضبانُ لا تُسْعِفُها))

بهذا الفعل الذي باء بالفشل، تقودنا الشاعرة عبر فعل قصدي وواع قامت به المجنونة، إلى فعل آخر، يتعالق دلاليا مع الفعل الأول، وإن دلّ على شيء فهو يدل على أن:

((لا شيْءَ هُنا يَدُلُّ على الشِفاء

كُلّ العالمِ عليل)).

من هنا تبدأ ملامح الشخصية بالتشكل عبر عوالم وفضاءات الحكي التي بدأت تتناسل مشاهدها، وتتوالد فيها الأحداث. وعلى الرغم من أن الشاعرة عملت على إخفاء قول الذات المجنونة من التمظهر بشكل علني عبر الفعل (قالت)، إلا أن القارئ يتوصل إلى قولها في السطرين الشعريين الرابع الخامس، وهذا الفعل الشعري يبعث في القارئ بهجة التقاط المخبوءات:

((اللعْنَةُ على هذا العالمِ بِأسْرِه)).

ثم تعود الشاعرة على لسان السارد/ الساردة إلى سرد الأحداث التي تلي رؤية المجنونة للعالم، ولعنتها له، فتسرد لنا حدث انطلاق الشتائم، واصفة إياها بالخائبات:

((وتنطلِقُ الشتائِمُ 

من النافذة

الشتائِمَ الخائِبات)). 

وتصف (اللعناتِ) بـ(المُتَعاقِبات)، وهي ما تزال في حراكها الجنوني:  

((لا تُبالي بالقُضبان

لا تُبالي وتُتْعِبُها

تُتعَبُ لكنّها تتشبّث بالقُضبان))

وتخبرنا الشاعرة على الرغم من الحذف الذي أرادت به التكثيف والشاعرية- بأن المجنونة ما زالت تمارس إخراج راسها من القضبان، ولكن دون الوصول إلى مبتغاها. فماذا ستفعل؟ ستواصل بالتأكيد إخبارنا بكل التفاصيل الدقيقة التي شكلت اللحظة الحضورية للمجنونة، وهي في حالتي اللامبالاة من جهة، والتعب من جهة ثانية، فتخبرنا بأنها ما زالت تتشبث بالقضبان. لكن الشاعرة بقصدية واعية أرادت أن تجرنا إلى فضاء أشد درامية من الفضاء السابق، فأرغمت السارد/ الساردة على إخبارنا بانها هدأت، ولكنها اجترحت حدثا جديدا عبر رؤيتها: 

((تنظُرُ تلمَحُ في غَبَشٍ رجلاً جاءَ يَعودُ امرأةً أخرى))

سيقوم هذا فعل البصري بنقلنا إلى أحداث تتشاكل فيها الدلالات، وتتلاحق عبر سلسلة من الأفعال المضارعة (تنطلق، تتعب، تتشبث، تنظر، تلمح….) والمقول الشعري هنا ذو طابع سردي، يهيمن عليه ضمير المتكلم، مما يعطينا الضوء الأخضر لعده سردا موضوعيا، وقد أكدت لنا الشاعرة عبر الصوت السردي ورؤيته نوعية هذا السرد، قبل الانتقال إلى السرد الذاتي في المقطع الاخير من النص. 

“حبيبَتُهُ التي مثلها تُقيم في نفس المُسْتَشْفى

مُسْتَشْفى المَجانين.. والمجْنونات

المجنوناتُ المُتْعَبات

المجنوناتُ اللاتي أتْعَبَتْهُنَّ الحياة

المجنوناتُ اللاتي جنَّنَتْهُنَّ الحياةُ من حولِهِنّ

تلك الحياة التي تعْمَلُ في مُسْتَشْفى الحياة

لكنّ الحبيبة التي أُدْخِلتْ إلى المسْتَشفى

بَعْدَما أُدْخِلَتْ إلى عالم يَفيضُ بالجُنون

رَفَضت رؤيَتَه

طَرَدْتُهُ”

في خضم هذه التوصيفات المباشرة للمشفى، والمجنونات، والحياة التي يعشنها، والعالم الفائض بالجنون، ندرك عمق المأساة التي تمر بها المرأة التي تودي بها إلى هذا المكان الإقصائي، مركوزاتها المأساوية لحياتها. أمّا ما يخص المجنونة تحديدا، فسوف نتساءل: ماذا ستفعل بعد رؤيتها ذلك الرجل؟ 

((تَنْظُرُ

تَمْسَحُ شيْئا عنْ عَيْنَيْها

شيْئاً يُشْبِهُ غَيْمَة

تَنْظُرُ كيْ تَرى

فَتَرى الرَجُلَ المَطْرودَ سيجارة))

هكذا هم المجانين يتوهمون الاشياء والأفعال، إذ يتخيلون حدثا غير واقع أبدا، أو أشياء لا وجود لها، وعلى هذا الأساس يبدو أن المجنونة قد تخيّلت ذلك الرجل سيجارة، فأخذت تخاطبه بلبس شعري، وكأن الذات الشاعرة عاشت هذه اللحظة

قد يعجبك ايضا
تعليقات