القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

مدرسة الالهامية من أقدم مدارس الحلمية

118

 

تقرير _ محمد زغله

لم تكن في مصرمدارسه للفن الصناعيه علي الإطلاق قبل أن ينشئ محمد علي الكبير مدارسه الصناعية, والتي اعتمد عليها لبناء كوادر مصرية 

وجد محمد علي أن نظام الطوائف المعمول به وقتئذ, والذي كان يزود البلاد بإعداد وفيرة من الحرفيين في شتي المجالات لا يفي بالأغراض الملحة للقيام بإنشاء صناعات جديدة متطورة، فأنشأ مجموعة من المدارس الصناعية والحرفية علي غرار المدارس الأوربية في ذلك العهد بدءا من مدرسة الهندسة التي أنشئت سنة 1816 ومدرسة العمليات التي أنشئت سنة 1839 ومدرسة الفنون والصناعات التي أنشئت في 1868 ومدرسة المنصورة الصناعية سنة 1889 بالإضافة إلي عدد من الورش المختلفة لتعليم النجارة سنة 1892

واستمر الحال علي هذا المنوال حتي بزغت فكرة إنشاء مدرسة متخصصة لتدريب صناع علي مهارات جديدة وبتقنية محترفة, وتبلورت الفكرة علي يد الأميرة أمينة إلهامي أرملة الخديو توفيق في 11 ديسمبر سنة 1911, وذلك عندما عينت الأميرة أحد أشهر عمال الصدف في مصر آنذاك وهو محمود عزب لإصلاح وترميم بعض قطع الأثاث في قصورها, والذي كان يستعين بدوره بأدق الصناع المكملين له من نجارين وخراطين وصدفجية وغيرهم, ولما حاز هؤلاء الصناع المهرة الذين تضاءل عددهم كثيرا في البلاد علي إعجاب الأميرة ومسئولي دائرتها, قفزت فكرة الإفادة من خبرات هؤلاء الصناع بدلا من تسريحهم, وخاصة أن الأميرة كانت تهوي اقتناء الأثاث الفاخر, فأشار عليها وكيل دائرتها محمود فهمي باشا بالاستفادة من هؤلاء الصناع المهرة في تعليم وتوريث حرفهم في مدرسة لتعليم اليتامي والفقراء, وساعده علي تحقيق الفكرة أن الأميرة كانت وصية علي وقف جدتها بنبا قادن والدة عباس الأول وكانت الحجة تنص علي إنفاق جزء من هذا الوقف علي شئون التعليم فتبلورت الفكرة لديها لإنشاء مدرسة صناعية تحقق ذلك الغرض ويقوم تلاميذها بتعلم تلك الحرف الأصلية علي يد الصناع المهرة, ومالبثت أن انطلقت الفكرة إلي حيز الوجود وانتقلت هذه الأيدي الماهرة مع رئيسها محمود عزب والذي أصبح ناظرا لهذه المدرسة إلي مبني بالقاهرة بني خصيصا لذلك بشارع الفلكي رقم 20 وذلك في سنة 1913, فجمعت الأميرة بذلك بين شروط الوقفية التي كانت وصية عليها وبين إيجاد هيئة صناعية تقوم بإنتاج جميع ما تحتاج إليه من مشغولات وقتما تشاء, وسميت بالمدرسة الإلهامية نسبة إلي والد الأميرة إبراهيم إلهامي باشا.

وتحقق حلم الآلاف من الصناع والحرفيين وبنيت المدرسة الإلهامية لتستوعب ورش النجارة والصناعات المختلفة الأخري, ولتستوعب أيضا زيادة عدد المعلمين والتلاميذ في المستقبل, فكانت مبانيها واسعة

كانت المدرسة تقع بالدور الأرضي كمكان مؤقت لحفظ مشغولات النجارة قبل طلائها, ومعرض للمدرسة ينظم به المشغولات لعرضها للبيع, أما المدخل الرئيسي للمدرسة فكان عبارة عن باب حديدي كبير يدخل منه كبار الزائرين والأجانب فقط ولم يكن يسمح للطلبة بالدخول منه, فكان الطلبة يدخلون من باب آخر له ضلفتان من الزجاج لهما إطار من الخشب وكان يفتح علي ورش النجارة, بالإضافة إلي حجرة ناظر المدرسة والتي كانت تحتوي علي مكتب يستخدم في بعض شئون الإدارة وفي عمليات الرسم والتصميم, كما كان يوجد به سرير له ناموسية كان ينام عليه ناظر المدرسة وقت الظهيرة, وقسم الطباعة والتجليد وجمع الحروف وماكينتها وملحق به ركن لصناعة الطرابيش, وبالدور الأرضي كان يوجد سلم من الحجر يصل إلي الدور العلوي ويمر بحجرة الدراسة, ويوجد أسفله مكان لبيع مأكولات وحلوي ولوازم التلاميذ والمعلمين.

أما الدور العلوي فكان عبارة عن سطح مغطي بالبلاط الأسمنتي يتضمن وورشة خراطة الأخشاب وبها صناعة العصي الثمينة, وورشة النقش علي المعادن, ورشة التطعيم, وقسم السجاد, وقسم صناعة الأحذية, وقسم خياطة الملابس الأفرنجية, وحجرة السكرتارية, وحجرة الدراسة ملحقا بها مصلي وهي تشتمل أيضا علي سلم من الحجر يصل من فناء المدرسة إلي السطح.

وكانت المدرسة تتسلم التلاميذ من أهاليهم وتعاملهم كأبنائها وتقوم علي تربيتهم وتعليمهم الصناعة, كما كانت تطعمهم وتكسوهم وتمنح الممتازين منهم أجورا شهرية, وكانت المدرسة تشترط في قبول تلاميذها بألا يتخطوا الأربعة عشر عاما عند التحاقهم بالمدرسة, وأن يكونوا أيتاما أو فقراء أو موصي عليهم وأن يملأوا بياناتهم في الاستمارة ويصدق عليها من شيخ الحارة الذي يتبع مقر سكنهم, هذا إلي جانب توقيعهم علي استمارة يتعهدون فيها ألا يتركوا المدرسة قبل مضي خمس سنوات, وألا يطالبوا بأية أجور خلال ثلاث سنوات, مع توقيع الكشف الطبي علي التلميذ المتقدم من طبيب الدائرة للتأكد من لياقته الصحية لتعلم تلك الصناعات, وكانت تجمع هذه الأوراق داخل دوسيه خاص باسم الطالب موقعا عليه من ناظر المدرسة بقبوله, ثم يحدد له القسم أو الصنعة المناسبة, ويصرف له الزي المدرسي في الحال.

ولم تكن بالمدرسة سنوات محددة كالسنة الأولي أو الثانية أو الثالثة, بل كانت تلك المدة مرهونة بمدي حصول التلميذ علي مستوي مناسب في الحرفة, وعلي مدي استيعابه لفنونها, فالدراسة كانت غير محددة بسنوات معينة بل بالوقت اللازم الذي يستغرقه كل تلميذ علي حدة, ليصل إلي درجة مناسبة من التعلم والقدرة والكفاءة في حرفته, وكان عدد من المعلمين يقومون بتعليم التلاميذ المبتدئين, في حين يقوم فريق آخر منهم بتعليم التلاميذ الذين اكتسبوا بعض المهارات البسيطة, وفريق ثالث يقوم بتعليم التلاميذ ذوي المستوي الأعلي.

وتشجيعا لهم علي استكمال رسالتهم كانت تصرف لهم أجور مرتفعة مقارنة مع باقي المدارس, فقد كان متوسط أجر النجار علي سبيل المثال عشرة قروش يوميا أما بالمدرسة فقد كان يصل مرتبه الشهري إلي عشرين جنيها, أما المعلمون فقد كان يتراوح أجرهم ما بين 10 و25 جنيها شهريا, كما كان ناظر المدرسة يتقاضي 45 جنيها شهريا, وهو مبلغ باهظ في ذلك الوقت, والتلاميذ الصغار كانوا يتقاضون أجورا تبدأ بقرشين في اليوم الواحد تزاد قرشين آخرين كل بضعة أشهر, ويصل مرتب بعض التلاميذ القدامي إلي عشرة قروش يوميا, هذا وكانت تلك الأجور ترتفع عاما تلو الآخر وفقا للكفاءة, حتي أضحت المدرسة الإلهامية واحدة من أهم المدارس التي يفتخر بها الطلبة والمعلمون, لما اشتهرت به من مستوي رفيع وتعليم عال.

وظلت المدرسة تؤدي رسالتها.. حتي انصرف اهتمامها في أواخر عهدها بجني الربح الوفير والاقتصاد في النفقات توقعا وقلقا من عواقب النزاع بين أفراد الأسرة الحاكمة, الذي استمر مدة طويلة أمام القضاء, وزاد الأمر بأن طالب الملك أحمد فؤاد بصفته حاكم البلاد تمكينه من النظر الحسبي علي وقف قها وهو الممول الرئيسي للمدرسة الصناعية الإلهامية, فرفع ديوان الأوقاف الملكية دعوي أمام المحكمة الشرعية استمر النظر فيها عدة سنوات, اضطربت خلالها أحوال المدرسة وشعر المعلمون والتلاميذ والمسئولون بالخطر والقلق علي ما ستسفر عنه الأمور, فظهرت خلال سنوات التقاضي ثغرات حادت عن الطريق السليم الذي اتبعته المدرسة من قبل. ومع ارتفاع دعاوي القضاء التي أسفرت عن تنازل الأميرة لوقف جدتها والذي يتضمن المدرسة الإلهامية أرسلت الأميرة إلي رئيس محكمة مصر الشرعية الكتاب التالي والذي نشر بالجريدة الرسمية: تعلمون أني ناظرة بالاسم علي وقف المرحومة جدتي بمبة قادن المعروفة بوالدة عباس باشا.. وقد قام خلاف بيني وبين الأوقاف الملكية وترتب علي هذا الخلاف نزاع أمام المحكمة الشرعية كان من نتيجته أن حكمت محكمة مصر الشرعية بتاريخ 23 يونية 1925 بضم ثقة الأميرة أمينة إلهامي في النظر علي وقف الألف فدان من جانب الملك أحمد فؤاد الأول…

ولهذا السبب بعد أن حكمت المحكمة بضم أملاك الأميرة الموروثة عن جدتها إلي حوذة الملك أحمد فؤاد تنازلت الأميرة عن وقف جدتها التي كانت المدرسة الصناعية الإلهامية في نطاقه فآلت إلي إدارة الأوقاف الملكية, ثم سعت مع وكيل دائرتها لإنشاء مدرسة أخري صناعية بدلا منها, ويكون الصرف عليها من أوقافها الخاصة, وبالفعل بدأ في التجهيز والتنفيذ إلا أنه شب خلاف حاد بين الوكيل محمود فهمي وبين ناظر المدرسة, وقد تفاقم ووصل إلي ساحات القضاء.

أما عن المدرسة الصناعية الإلهامية فلما آلت لإدارة الأوقاف الملكية محت اسم الإلهامية وأبدلته إلي مدرسة بنباقادن الصناعية نسبة إلي صاحبة الوقف الأصلية, حيث إن فؤاد كان يكره مجرد ذكر اسم الوالدة أم عباس حلمي الثاني منافسه علي عرش مصر, فألغي نهائيا هذا الاسم الذي طالما أقلق مضاجعه في المحافل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, وعين الملك فؤاد محمد حسنين الموظف بالأوقاف الملكية ناظرا عليها, إلا أن العمل بالمدرسة اضطرب مما أسفر عنه فصل عدد كبير من المعلمين هذا إلي جانب هجرة بعضهم نتيجة للمكافآت الضئيلة التي كانوا يتقاضونها.. وظل الحال يجري من سيئ إلي أسوأ حتي ورد من إيطاليا صالون فخم للملك فؤاد أرسله إلي البقية المتبقية من معلمي المدرسة لتجميله بأشغال التطعيم علي الطراز الفرعوني, وكان ذلك ختام أعمال المدرسة, فلما انتهوا منه في شهر ديسمبر سنة 1929 كانت المدرسة قد صفيت جميع أعمالها, وبيع بالمزاد العلني ما تبقي بها من خامات وأدوات وأشغال غير مكتملة, وبحلول عام 1930 كانت المدرسة الصناعية الإلهامية قد باتت في ذمة التاريخ.

سنوات قليلة في حياة المدرسة لا تتعدي العشرين عاما إلا أنها باتت عمرا يفوق الحصر في تاريخ المحافل الصناعية والفنية, لما أحدثته المدرسة من ثورة في التقنيات والأبحاث الفنية لا يزال صداها يتردد في قلب التاريخ والأعمال الفنية العريقة, فهي نبتة من مصر قلب الصناعات والفنون والهندسة من عهد الفراعنة إلي المدرسة الإلهامية..

قد يعجبك ايضا
تعليقات