القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

الحملات العثمانية المصرية على الدولة السعودية

120

 

 

تقرير د / زمزم حسن 

 

السلطان العثماني محمود الثاني.

خُلِع وأُعْدم السلطان العثماني سليم الثالث في انقلاب دبره مصطفى الرابع، وقد أُعْدم هذا الأخير لاحقاً بعد سنة واحدة من حكمه ووصل محمود الثاني لتخت السلطنة سنة 12233هـ الموافق لسنة 1808م.

واصل محمود الثاني سياسة من سبقه في محاولة التضييق على نفوذ الدولة السعودية وازداد رغبة في تدميرها بعد أن دخل الحجاز والحرمين الشريفين في ظلها. جدد السلطان محمود الثاني الأوامر لواليه على مصر، محمد علي باشا، والذي صدر التكليف له لأول مرة من قِبَل السلطان مصطفى الرابع بالهجوم على الدولة السعودية بعد أن تبين عجز ولاة العراق والشام، إلا أن محمد علي باشا اعتذر بسبب الظروف الاقتصادية السيئة في مصر. ولما كرر السلطان تكليفه محمد علي باشا، خشي الأخير أن يكون هناك شرك تنصبه له الدولة، وأبدى، هذه المرة، عذره بأن قوته العسكرية غير كافية، ولابد من حشد طاقات عسكرية كبيرة، من ولايات العراق والشام، إلى جانب قوة مصر. كما أنه بدأ يثير مشكلة تخوفه من والي الشام سليمان باشا، الذي يتهمه بالتعاون مع خصومه، وربط مهمة قبوله هذه المهمة، بعزل هذا الوالي، وإسنادها إلى صديقه، والي الشام السابق، يوسف باشا كنج، الذي لجأ إلى مصر. وبعد ذلك، بدأ يقترح على الدولة العثمانية وجوب تسيير الجيوش البرية من الشام، بقيادة سليمان باشا نفسه، ليأمن جانب غدره به، أثناء تغيبه في الحجاز.

 

لما وجد محمد علي باشا، أن محاولاته للتخلص من تلك المهمة العسيرة، لا تنجح. جند طاقته، وأعد القوات، البرية والبحرية. وفي سنة 1226هـ الموافق لسنة 1811م، قام محمد علي باشا بجمع كبار مماليك مصر ودبر مكيدة للتخلص منهم جميعاً؛ لأنه خاف من غدرهم، حيث فتك بهم بعد أن جمعهم لمأدبة طعام على شرف جيشه، وأُرِخَت بمذبحة القلعة، وتوطد بعدها سلطانه، وسير بعدها بأشهر قليلة حملاته على الدولة السعودية.

 

الحملة الأولى (1811م – 1813م)

اتخذ محمد علي باشا معسكراً بالقرب من القاهرة لإعداد حملته، وعقد لواءها لابنه طوسون باشا يرافقه فيها كبار قادته، ولما وقعت مذبحة المماليك بالقلعة، بدأ محمد علي باشا في حشد المقاتلين والعتاد بشكل كبير، وقطع في ذلك ستة أشهر ونصف الشهر إلى أن صارت على أهبة الرحيل. بلغ عدد رجال الحملة المسيرين في أولها ثمانية آلاف مقاتل نظامي فقط، كما ارتفع العدد في الحجاز إلى أن بلغ أربعة عشر ألف مقاتل؛ إذ دخلت فيهم قوات غير نظامية من العربان.

 

معارك ينبع والسويق وبدر عدل

في شعبان سنة 1226هـ/سبتمبر 1811م، بدأ محمد علي باشا في تسيير قواته ناحية الحجاز، وكان خط سير الحملة أن تتحرك السفن بالجنود المشاة من ثغر السويس إلى ينبع البحر، أما الفرسان وعلى رأسهم طوسون باشا فيسيرون براً مع مواشيهم وجمالهم المحملة بالمؤن والسلاح عن طريق برزخ السويس فالعقبة حتى يبلغوا ينبع البحر فيلتقوا بالمشاة بها ومن هناك يزحف الجمع إلى المدينة المنورة. وصلت السفن العثمانية بعد شهر من تحركها بلدة ينبع البحر واستولت عليها، وقد كان فيها حامية صغيرة؛ إذ انسحب أميرها الموالي للدولة السعودية الشريف جابر بن جبارة بعد أن خسر ثلاثمائة من أتباعه. أسرع الشريف ابن جبارة في إعلام أمير المدينة المنورة المعين من قِبَل الدولة السعودية مسعود بن مضيان الحربي، ليبعث الأخير برسالة لسعود الكبير بن عبدالعزيز بالدرعية يعلمه فيها عن هذا الإنزال، ويعلمه عن القوات الأخرى التي تسير بمحاذاة الساحل براً والتي أخذت في استمالة أبناء القبائل بالهدايا والأموال في طريقها إلى ينبع البحر.

 

روى عبدالرحمن الجبرتي المؤرخ المصري المعاصر لتلك الحقبة ما جرى لأهل البلدة وأحداثها، بقوله: «وردت الأخبار بأن عساكر البحرية ملكوا ينبع البحر، ونهبوا ما كان فيه من ودائع التجار، وذلك أنه كان بمرساة ينبع عدة مراكب وأدوات.. ونهبوا كل ما كان بينبع من الودائع والأموال والأقمشة والبن، وسبوا النساء والبنات الكائنات بالبندر، وأخذوهن أسرى، ويبيعوهن على بعضهم البعض، ووصل المبشرون بذلك.. فضربوا لذلك مدافع من القلعة كثيرة، وعملوا شنكا، وطافت المبشرون على بيوت الأعيان ليأخذوا منهم البقاشيش، وأرسلوا بتلك البشارة شخصا معينا كبيرا إلى إسطنبول، يبشرون أهل الدولة وسلطان الإسلام، وكان ذلك أول فتح حصل».

 

وفي نوفمبر من نفس السنة، وصل طوسون باشا بفرسانه إلى ينبع البحر حيث التقى بقواته المشاة فيها، وسار منها مع قادته قاصداً ينبع البر. وفي طريقه أغار عليه الشريف ابن جبارة مع مسعود بن مضيان الحربي ليمنعاه من بلوغها، فهزمهما؛ إذ أهلك ألف من أتباعهما تحت ضربات المدافع ودخل ينبع البر سلماً.

فسارع مسعود بن مضيان الحربي في الانضمام لقوات الدرعية الرئيسية والتي بدأت في حفر خندق في أحد خيوف وادي الصفراء في الطريق الرابط ما بين المدينة وينبع للإيقاع بالقوات العثمانية. لاحقاً، واصلت الحملة العثمانية سيرها نحو المدينة المنورة، تعاونها جموع من القبائل التي استمالها طوسون باشا بالهدايا والأموال. وتمكنت، بعد اشتباكات يسيرة مع الشريف ابن جبارة من الاستيلاء على السويق، كما أخضعت بدر.

 

روى عبدالرحمن الجبرتي عن دخول طوسون باشا ينبع البر، وإخضاع السويق، واشتباكات طلائع الجيشين قرب وادي الصفراء، ما نصه: «وصلت هجانة ومعهم رؤوس قتلى ومكاتبات مؤرخة في منتصف شهر القعدة، مضمونها: أنهم وصلوا إلى ينبع البر في الحادي والعشرين شوال.. وأنَّهم ملكوا قرية ابن جبارة من الوهابية، وتسمى قرية السويق، وفر ابن جبارة هاربا، وحضرت عربان كثيرة وقابلوا ابن الباشا.. وأنَّه ورد عليهم خبر ليلة أربعة عشر شهره -ذي الحجة-، بأن جماعة من كبار الوهابية حضروا بنحو سبعة آلاف خيال وفيهم عبدالله بن سعود، وعثمان.. ومعهم مشاة، وقصدوا أن يدهموا العرضى على حين غفلة.. ووقع بينهم القتال والوهابية يقولون: «هاه يا مشركون»، وانجلت الحرب عن هزيمة الوهابية.. وكانت الحرب بينهم مقدار ساعتين».

كما قال عن مصير بدر التي خضعت قَبْل اشتباكات الطلائع، ما نصه: «ولما وصلوا بدرا واستولوا عليها.. نهبوهم وأخذوا نساءهم وبناتهم وأولادهم وكتبهم، فكانوا يفعلون فيهم ويبيعونهم من بعضهم لبعض».

 

معركة وادي الصفراء

وفي أواخر ديسمبر من نفس السنة، زحف طوسون باشا وقادته نحو المدينة المنورة، وكان قد أعد لهم عبدالله ابن الإمام سعود الكبير كميناً في أحد خيوف وادي الصفراء الضيقة في طريقهم للمدينة المنورة بعد أن اتفق الرأي مع من معه على حفر خندق وتعبئة قواتهم عنده، فصار عند الخندق أهل نجد بقيادة عبدالله بن سعود الكبير، وفي الجبال فوق الخندق أهل الحجاز وعسير وعليهم عامل الدولة السعودية على الحجاز عثمان بن عبدالرحمن العدواني؛ كما عمل أيضا على وضع بعض التحصينات الصغيرة لتأخير تقدمهم.

 

روى عبدالرحمن الجبرتي المؤرخ المصري في تاريخه، أنه عندما وصلت قوات طوسون باشا لاحقاً، نصبت خيامها بالصفراء قرب الجبال، وأرزت خيولهم، فأخذوا يرمون من في الوادي وتقدموا؛ إذ أخذوا يحاربون على المتراس الأول حتى أخذوه، ومن بعده سقط الثاني ودخلوا لعمق الوادي.

 

عندها تقدم عثمان بن عبدالرحمن العدواني ومسعود بن مضيان الحربي بأهل الحجاز ومن معهم من فوق الخندق ورموهم، كما كسروا بعض قوات طوسون باشا التي سبق أن صعدت بعض أطراف الجبال، فتراجعت قوات طوسون باشا للأسفل والحرب لا تزال قائمة فيه، فانهزموا؛ عندها اندفعت قوات عبدالله بن سعود الكبير وراءهم بقلب الوادي وأوقعت فيهم خسائر فادحة في اليوم الثالث والأخير للمعركة. خسرت الدولة السعودية اثنين من كبار قادة الخيالة في صفوفها، هما: شيخ شمل قحطان هادي بن قرملة القحطاني، ومانع بن وحير العجمي، إلا أنها لم تخسر من قواتها البالغة ثمانية عشر ألفاً أكثر من ستمائة إلى ألف وستمائة مقاتل مما عد هزيمة شنيعة للحملة العثمانية الجديدة.

 

عبور طوسون باشا وادي الصفراء

فر طوسون باشا بعد الهزيمة في الصفراء مع من بقي حياً من قواته قاصداً ينبع البحر، وتحصن بها؛ إذ لم يعد معه من عساكره سوى ثلاثة آلاف مقاتل من أصل ثمانية آلاف مقاتل نظامي والتي لم يدخل فيها القوات الغير نظامية التي نجح في استمالتها وحاربت معه وتشتت شملها، فأسرع في طلب المدد.

وصلت أنباء هذه الهزيمة لاحقاً إلى محمد علي باشا، ونسبها طوسون باشا إلى اختلاف قواده وتقصيرهم، وطلب المدد كي يسد الفراغ الذي وقع في صفوف قواته، فتأثر محمد علي باشا لهذه الهزيمة، وأرسل يستدعي قادته المسؤولين عنها، ورجع بعضهم إلى مصر من تلقاء أنفسهم، فغضب عليهم محمد علي باشا وأقصاهم من مراكزهم ونفاهم من مصر، وكان منهم صالح قوج رئيس الجند الأرنؤوط والذي كان له شأن كبير في مذبحة المماليك بالقلعة.

اضطر محمد علي باشا للقيام بنفقات الحملة إلى فرض ضرائب جديدة وكبيرة أمكنته أن يمون منها قواته في فترة وجيزة، كما اختار لقيادتها خيرة رجالاته.

 

وفي سنة 1227هـ/1812م، قدم من مصر عن طريق البحر أحمد بونابرت مع الأموال والعدد والعدة في خمسة عشر ألفاً من المقاتلين بالإضافة لثلاثة آلاف مقاتل من المغاربة جهزهم محمد علي باشا دعما للقوات المرابطة في ينبع البحر والتي عليها ابنه طوسون باشا.

تحركت تلك الجموع النظامية بعد تأمين ينبع البحر إلى المدينة المنورة، وقد استولت في طريقها على وادي الصفراء وبلدات حرب حوله وغيرها دون قتال باستمالة أهلها وأحلافهم بالهدايا والمال مع الخُلَع لشيوخ العشائر.

 

معركة المدينة المنورة

وصلت القوات العثمانية إلى المدينة المنورة في منتصف شوال سنة 1227هـ/18122م، وضربت عليها الحصار، وسدت عنها الماء، ونصبت عليها المدافع والقنابر الكبار، وهدمت ناحية قلعة البلد؛ ذلك أنه عندما استعصت المدينة بأسوارها وقوة تحصيناتها أمر طوسون باشا قواته بحفر سراديب تحت سور المدينة ناحية قلعة البلد وثوروا فيها البارود وأشعلوا فيها النار، فانهار السور، وانقضت القوات العثمانية على من كان فيها.

وقد كان بالمدينة المنورة من الحامية التابعة للدرعية عدد من أهل نواحيها جعلهم فيها إمامها سعود الكبير بن عبد العزيز أثناء قفوله من الحج سنة 1226هـ/1811م، حيث وضع فيها سبعة آلاف مقاتل إلى جانب القوات المرابطة فيها من أهلها تحسبا لهجوم محتمل.

في تلك الأثناء، قام بعض من كان يسكن المدينة بفتح باب البلد، فانكسرت القوات السعودية المرابطة فيها، وانهارت صفوفها، وكثر الرمي والقتل فيهم عند فجوة السور المنهار ومن داخل البلد، فانحازوا لقلعة المدينة المحصنة وذلك لتسعة مضين من ذي القعدة. فأخذت قوات طوسون باشا في ضرب القلعة بالمدافع حتى طلب من كان فيها المصالحة بعد أيام فأنزلوهم منها بالأمان على أن يغادروا المدينة فغادروها بعد شهر من بدأ المعركة التي امتدت من منتصف شهر شوال إلى منتصف شهر ذي القعدة تقريبا، وقد مات بعد خروجهم الكثير مرضا أو جوعا، كما خسرت الدرعية ثلثي عسكرها المكلف بحماية المدينة.

 

روى بركهارت مؤرخ حملات محمد علي باشا في تاريخه، ما قام به أحمد بونابرت بعد المعركة، ما نصه: «جمع أحمد، بأسلوب الوندال الحقيقي، جماجم كل الوهابيين الذين قتلوا في المدينة، فكون منها برجاً في الطريق الرئيسية إلى ينبع، ووضع حرساً قربه. ومع ذلك نجح العرب، وحتى سكان المدينة، من وقت إلى آخر في إزالة ذلك التذكار المرعب. وحين وصلت إلى المدينة.. لم يكن قد بقي منه إلا القليل».

 

روى عبدالرحمن الجبرتي عن مصير عامل الدولة السعودية على المدينة المنورة، مسعود بن مضيان الحربي، وما جرى له عند وصوله إلى الأستانة أسيراً، ما نصه: «وقعت كائنة لطيف باشا، وذلك أن المذكور مملوك الباشا أهداه له عارف بيك.. فلما حصلت النصرة للعسكر واستولوا على المدينة، وأتوا بمفاتيح زعموا أنها مفاتيح المدينة كان هو المتعين بها للسفر للديار الرومية بالبشارة للدولة، وأرسلوا صحبته مضيان الذي كان متأمراً بالمدينة، ولما وصل إلى دار السلطنة، ووصلت أخباره احتفل أهل الدولة بشأنه احتفالا زائدا، ونزلوا لملاقاته في المركب في مسافة بعيدة، ودخلوا إلى إسلامبول في موكب جليل وأبهة عظيمة إلى الغاية.. وكان يوم دخوله يوما مشهودا، وقتلوا مضيان المذكور في ذلك اليوم، وعلقوه على باب السراية، وعملوا شنانك ومدافع وأفراحا وولائم».

 

تحصينات مكة المكرمة

وفي الأواخر من نفس السنة 1227هـ/1812م، حج إمام الدولة السعودية سعود الكبير حجته التاسعة والأخيرة وقد بلغه سقوط المدينة المنورة قَبْل دخول مكة المكرمة، فاجتمع عليه أهل الأحساء وعمان ونجد والحجاز وتهامة وغيرهم، والتقى بابنه عبدالله، وأمره أن ينزل بمن معه وادي مرّ بالقرب من مكة شمالاً لحمايتها ولتكون مكة قاعدة يجتمعون فيها إن انهزموا؛ كما اجتمع بشريف مكة غالب بن مساعد مرارا وأهدى إليه هدايا وأعطاه عطايا جزيلة كما أخذ عليه العهد أن لا يخونه أو يغدر به؛ كما كسى الكعبة المشرفة بالديباج والقيلان الأسود والحرير ووضع بمكة بعض الجند المخلصين له ورجع إلى عاصمته الدرعية للتحضير لمعاقبة القبائل التي غدرت به حديثا والتي سَلَّمَت واِنْفَضت عن مواقعها المحصنة بين ينبع والمدينة المنورة كموقع وادي الصفراء الإستراتيجي.

قد يعجبك ايضا
تعليقات