القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

نبذه عن الشهادة من أجل الوطن ” الجزء الثانى “

89

إعداد / محمـــد الدكــــرورى

ونكمل الجزء الثانى مع الشهادة من أجل الوطن، وقد يقول قائل فإذا كانت الحياة بعد الموت مباشرة نصيب المؤمنين والكافرين، فما معنى أن الشهداء أحياء عند ربهم؟ وإذا كانت الحياة ستكون نصيب الجميع من أثيب ومن عوقب فما معنى أن الشهداء أحياء؟ والجواب هو أن حياة الشهداء لها طراز خاص من التكريم الإلهي، ولها أوضاع آثرها الله بها، فإن للشهداء مكانة خاصة، والفقه الإسلامي على أن الشهيد أرفع الناس درجة بعد الأنبياء والصديقين، وأن الشهادة درجة يرفع الله تعالى إليها من يتخير من عباده، فهي منحة وليست محنة، فإذا أراد الله عز وجل أن يرفع درجة إنسان اختاره شهيدا، فقد جاء رجل إلى الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فقال حين انتهى إلى الصف، اللهم آتني أفضل ما تؤتي عبادك الصالحين، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم، الصلاة قال”من المتكلم آنفا؟” فقال الرجل أنا يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم “إذا يعقر جوادك وتستشهد” فهذا أفضل ما يؤتيه الله تعالى عبدا صالحا، أن يقتل في سبيله، فالشهادة إذن مكانة خاصة لناس يريد الله أن يرفع درجتهم، ولذلك يقول الله تعالى في شهداء أحد كما جاء فى سورة آل عمران ” وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء” ولكن، من الشهيد الذي يستحق هذه الدرجة الرفيعة، وهذه المكانة السنية عند الله؟ من هو؟ أهو كل قتيل في معركة؟ لا، إن اليهودي الذي يقتل فوق الأرض العربية معتديا غاصبا يريد أن يطوي الرسالة المحمدية، وأن يجهز على التاريخ الإسلامي هذا القتيل كأى لص يسطو على بيت فيطلق عليه الرصاص.

فيذهب إلى النار، وبئس القرار، ليس كل قتيل في معركة يعتبر شهيدا، وقد أوضحت السنة النبوية المشرفة، أن الشهداء لهم تعريف خاص، تتبعنا هذه التعريفات للشهداء فوجدنا أولها “من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ” ومن اعتنق الحق، وأخلص له، وضحى في سبيله، وبذل دمه ليروي شجرة الحق به، فهذا شهيد، وأن هناك شهيد آخر هو الذي يأبى الدنية، ويرفض المذلة والهوان، فإن الله سبحانه وتعالى جعل العزة للمؤمنين، فإذا حاول أحد أن يستذلك فدافع، إذا حاول أحد أن يجتاح حقك فقاوم، فقد جاء رجل إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال صلى الله عليه وسلم “فلا تعطه مالك” قال أرأيت إن قاتلني؟ قال صلى الله عليه وسلم “قاتلة” قال أرأيت إن قتلني؟ قال صلى الله عليه وسلم “فأنت شهيد” قال أرأيت إن قتلته؟ قال صلى الله عليه وسلم “هو في النار” وقد جاء في السنن أيضا ” من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد ” فالمسلم ينبغي أن يتشبث بحقوقه، وأن يدافع عنها، وألا يجعل الدنية صفة له، بل ينبغي أن يحافظ على حقه الأدبي والمادى، وليس معنى الحفاظ على الحق المادي والأدبي أن يكون الإنسان حريصا على الحياة، أو حريصا على الوجاهة في الدنيا، لا، ليس هذا هو المطلوب، وإنما حدث أن النبى صلى الله عليه وسلم، قال للأنصار “ستكون أثرة وأمور تنكرونها” قالوا يا رسول الله، فما تأمرنا؟

قال صلى الله عليه وسلم “تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم” ومعنى ستجدون أثرة بعدى، أى ستعيشون في مجتمع لا يعطيكم حقكم ولا مكانتكم، وأما معنى تؤدون الحق الذي عليكم؟ افرض أنى في مجتمع جائر، هل أخون؟ لا، ولكن أؤدي ما علي كاملا وأطلب من الله الأجر، وهو حسب كل مؤمن ووكيله، وإن كلمة الوطن هى كلمة صغيرة لكنها باتساع الكون، ومجرد أن يذكر الإنسان هذا المكان الذى ينتمي إليه بكل ما فيه تتأجج المشاعر ويصبح القلب ممتلئا بكل ما هو جميل، فالجميع يتمسك به لأنه الأساس الذي يقوم عليه كرامة الشخص وكيانه، وحب الوطن هوالحب الحقيقي لأنه حب فطري ينبع من أعماق القلب ولا يمكن صده أبدا، لأنه الكيان الذي تنتمي إليه جميع الكائنات، ودون وجوده يشعر الإنسان بالضياع والتشرد، والانتماء للوطن يأتي دون أى تخطيط، لأن الشخص يشعر أن اكتماله لا يكون إلا في وطنه، وبدونه يشعر بالنقص وعدم الاستقرار، فالإنسان مجرد أن يفتح عينيه ويولد، تقع عيناه على سماء بلاده، ويبدأ بتنفس الهواء فيه فيستوطن حبه في القلب إلى الأبد، وعلى الرغم من أن البعض يعد الوطن مجموعة من الأنظمة والقوانين التي يجب الخصوع لها، إلا أن فكرة وجود بلاد ينتمي إليها الإنسان فهي أعظم من جميع المسميات، فهو مصدر الأمن والأمان، والمكان الذي يحصل فيه الإنسان على حقوقه ويؤدي واجباته بصدر رحب، وهذا ما يفسر الاستماتة في الدفاع عن حدود أوطانهم، وعدم السماح لأى أحد بأن يسبب له الضرر.

وليس غريبا أبدا أن تقام حروب كبيرة لأجل الدفاع عن حرية الوطن، لأن كرامة الإنسان تكون في وطنه وعلى أرضه، وحبه لا يقتصر على الإنسان فقط، بل إن جميع الكائنات من حيوانات وطيور تحب أوطانها، فالطيور مهما هاجرت لا بد وأن تعود إلى حيث ولدت ونشأت، وحب الوطن ليس مجرد كلمات رنانة يقولها الشعراء والأدباء، بل هو حب بالأفعال والدفاع عن كيانه ووجوده، والشعور بأن أمنه جزء من الأمن النفسي والشخصي، لهذا فإن حب الوطن يظهر في تصرفات أبنائه وخوفهم عليه وحمايته من أي تدمير محتمل، واستعدادهم للدفاع عنه باستماتة ضد جميع المتربصين، ويكون هذا بالتضحية بالروح مقابل أن تظل راياته خفاقة عالية تلوح في الأفق، وحبه يكون بالسعي لتطويره وتقدمه، ويكون هذا السعي للعلم وطلبه بجد واجتهاد، والاختراعات والاكتشافات التي يقوم بها أبناء الوطن لرفعته ونصرته ووضع اسمه في المقدمة، ويكون حب الوطن بالحفاظ على مقدراته وآثاره وتاريخه، وعدم التسبب بأي إيذاء لأي شيء فيه، فالحفاظ على ثرواته يضمن أن يظل واقفا في وجه أى اعتداء خارجي، وحبه أيضا يكون بالأمانة فى العمل، وحمايته من أي فساد داخلي في المجتمعات، وعدم احتكار أي معلومة من الممكن أن تفيده أو أيٍ من أبنائه، ولا يشعر بقيمة الأوطان إلا من عاش في غربة بعيدا عنه، فالوطن هو الأهل والأصدقاء والجيران، وهو المكان الذي تبدأ فيه الذكريات من سن الطفولة إلى سن الشباب وحتى الشيخوخة، ويشعر كل من ينتمي إليه بالرغبة في أن يدفن فى ترابه.

حتى لا يغادره أبدا، فإن الوطن هو الخيمة الكبيرة التي يستظل بها الجميع، وهو الشجرة المثمرة التي تمنح أبناءها أطيب الثمار دون كلل أو ملل، وهو السماء العالية التي تحتضن كل مواطن، لهذا فإن حبه واجب تفرضه الإنسانية أولا والانتماء الحقيقي ثانيا، لهذا فإن من واجب الأم والأب والمعلمين وجميع أفراد المجتمع تعليم حب البلاد للأطفال حتى يكبروا على هذا الحب، ويكونوا مستعدين للدفاع عنه وفدائه بالروح والمال والدم، وغرس الانتماء في داخلهم، وهذا لا يكون بالقول فقط، بل يجب أن يظهر الجميع القدوة الحسنة أمام الأطفال في الدفاع عن أوطانهم التي تمثل كرامتهم، وإن نيل الشهادة في سبيل الله دفاعا عن الأوطان مكرمة جليلة، ومنحة كبيرة، يمن الله تعالى بها على من يشاء، فيقول سبحانه وتعالى “وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء” أى ليكرم منكم بالشهادة من أراد أن يكرمه بها، فدرجة الشهداء كبيرة، ومنزلتهم رفيعة، فهم أحياء فرحون، عند ربهم يرزقون، فقال الله عز وجل، مذكرا بعظم منازلهم فى كتابه الكريم ” ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون” فطوبى لأبناء هذا الوطن الأبرار، الذين التحقوا بركب الشهداء الأطهار، الموعودين بأعظم الجزاء عند العزيز الغفار، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم ” كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن من فتنة القبر”

وإن بركة الشهيد لا تقتصر عليه، بل تتعداه إلى أهله وذويه وأقاربه، فيقول النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ” للشهيد عند الله ست خصال، يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه” وإن من يحب وطنه يسعى لأن يدافع عنه بكامل قوته، ولا يكون الدفاع عن الوطن فقط بحمل السلاح والمرابطة على حدوده لحمايتها من الأعداء والجيوش المحتلة، بل يكون الدفاع عنه بمنع انتشار الفساد والفتن فيه، والسعي لأن يكون الوطن حصنا منيعا في وجه كل اعتداء، فهو الجنة التي يجب أن تحاط بالأسوار العالية وأن تحميه الأرواح الغالية والدماء الزكية، ولا يمكن للوطن أن يكون مصانا إلا بدماء أبنائه الذين يدافعون عنه مهما كانت الظروف والأحوال، كما يكون الدفاع عنه بنشر الحب والتكافل الاجتماعي بين أبنائه كي يكونوا أقوياء صامدين في وجه أي اعتداء خارجى، وحين يدافع الإنسان عن وطنه يشعر كما لو أنه يدافع عن روحه وعن حق نفسه وأبنائه بالعيش بأمانة وثقة، دون أن يكونوا خائفين، والدفاع الحقيقي عنه يكون أيضا بمحاربة الكراهية والبغضاء التي ينشرها أصحاب النفوس المريضة فيه، وعدم الاستسلام لأي شائعات أو أقوال ينشرها المشككون في حبه، ويكون أيضا بوقف أي استغلال لأراضيه بطريقة سيئة، والدفاع عن خيراته ومقدراته من الإسراف والتبذير والضياع.

أو الاستغلال غير الصحيح، وزراعة الأشجار في صحرائه كي تصبح جنة، وتعمير أراضيه، وإن توعية أبناء الوطن بما يجب أن يفعلونه تجاهه من أهم أنواع الدفاع عنه، فالدفاع عنه لا يقتصر على حمل السلاح فقط، بل يحتاج إلى الوعي الكبير والقدرة على مجاراة جميع الدول وتحمل الظروف والأحوال التي تعصف بالبلاد والعباد، والعمل على التأقلم مع هذه الظروف ومنع تأثيرها على الوطن ومقدراته، أما الانحناء للعاصفة يعني الاستسلام والتخاذل، وترك الوطن وحيدا في مهب الريح، كما أن الوفاء يحتم على الجميع الوقوف صفا واحدا لحمايته والدفاع عنه لينعم بالسلام الدائم، والتطور المستمر الذي يضعه في المقدمة دائما، وإن من أثر غياب حب الوطن هو أن يحب الإنسان وطنه يعني أن يكون مستعدا للتضحية بنفسه وولده وماله كي تظل راياته عالية، أما إن غاب هذا الحب فسيشعر الإنسان أنه غير منتمى إلى أرضه، ولن يكون في داخله أية أهداف ليحققها في سبيله، وربما لا يشعر الشخص بداية أن لغياب هذا الحب أثر، لكن غياب حب الوطن له أثر سلبي، لأنه يعطي شعورا بالانسلاخ عن الأرض والسماء والتراب والأهل والبيت، فيعيش المرء في حالة غربة بينه وبين نفسه، ولا يكون قادرا على أن ينتمي إليه مهما واجه وطنه من محن وظروف، وهذا يعد نوعا من الخيانة غير المقبولة، لأنه يجعل القلب يتجه لا شعوريا تجاه بلاد غريبة لتحل مكان البلاد التي ينتمي إليها الإنسان، وإن غياب حب الوطن يجعل الإنسان يشعر بالغربة حتى عن نفسه.

قد يعجبك ايضا
تعليقات