القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

علاقة رمز الثعبان بغزة في فيلم أوروبوروس

126

 

القاهرية 

علاقة غزة بـ “أوروبوروس”، رمز الثعبان المدور الذي يعض ذيله المستخدم في الميثولوجيا والتقاليد الغنوصية والهرمسية وما ارتبط به من ممارسات سحرية غامضة؟ وما الذي يجمع ساحل غزة وخرائب بنايته المدمرة بصحراء موهافي بولاية لوس أنجلِس الأمريكية وبقايا السكان الأصليين فيها؟ أو بمدينة ماتيرا القديمة جنوبي إيطاليا، أو بقصر تاريخي في مقاطعة بروتاني في فرنسا؟

على هذه المساحة الواسعة، تمتد رحلة فيلم المخرجة بسمة الشريف “أوروبوروس”، والتي تمتد حياتها هي بدورها على أماكن متعددة، فهي أمريكية الجنسية من أصول فلسطينية غزاوية، ولدت في الكويت وعاشت متنقلة بين فرنسا والولايات المتحدة وألمانيا. هذا التنقل الذي سيترك أبلغ الأثر في تشكل هويتها وتساؤلاتها بشأنها.

وسنترك الإجابة عن هذه الأسئلة لتتكشف في ثنايا سرد هذا المقال، مع تحليلنا لعناصر هذا الفيلم البصرية والسردية، وسيرة وأفكار المخرجة وموقع غزة لديها؛ والتي اتخذت موقعا مركزيا دارت حوله معظم أفلامها، وجعلت من محاولة تقديم صورة أخرى عنها- مختلفة عن تلك التي نراها في وسائل الإعلام – مهمة أساسية لها في أفلامها أو أعمالها الفنية التي تعرضها في معارض فنية ومتاحف عالمية.

إذ عرضت أعمالها الفنية البصرية، على سبيل المثال لا الحصر، في نوماديك ديفشن في لوس أنجلِس (2021) ؛ متحف الفن الحديث: موديرن مانديز في مدينة نيويورك (2020)؛ سالت غالاتا، اسطنبول (2020)؛ بينالي لاهور 02 (2020)؛ مركز الفنون المعاصرة، غلاسكو (2019)؛ متحف الفن المعاصر، تورنتو (2019)، فضلا عن مشاركة أفلامها في مهرجانات سينمائية بارزة.

تستعير الشريف رمزا قديما تتجذر أصوله في حضارات إنسانية عتيقة مختلفة من بينها الحضارة الفرعونية، التي انتقل الرمز من تراثها ولغتها الصورية إلى الميثولوجيا الإغريقية، وباتت له استخدامات مختلفة في الثقافة الغربية وفي ثقافات إنسانية أخرى.

وقد حظي بأثرة خاصة في التقاليد الغنوصية العرفانية والهرمسية، وما ارتبط بها من ممارسات خيميائية وسحرية غامضة. فبات رمز الأوروبوروس، الأفعى المدورة التي تعض ذيلها، رمزا للعود الأبدي، ودورة الحياة والموت والانبعاث، ورمزا للسرمدي وروح العالم.

توضح الشريف بنية عنوان فيلمها بالقول إن “أوروبوروس بالنسبة لي، كان مرتبطا بفكرة العود الأبدي، وبأن الطريق الوحيد أمامنا لكي نتحرك قدما هو النسيان. إذا لم نفعل ذلك، فإننا محكوم علينا بأن نعيد أخطاءنا وأن ندمر أنفسنا”.

هذه ليست مجرد فكرة مفهومية تستعيرها بسمة الشريف بل تستحيل لديها إلى بنية سردية في فيلمها الذي يهجر بنية السرد التقليدية الخطية؛ من بداية ووسط ونهاية، إلى بنية تقوم على تواتر البناء والهدم في مسار دائري تلتقي بدايته بنهايته.

وهذه البداية والنهاية بالنسبة للشريف هي غزة التي تحدرت جذورها منها، فهي ما يبدأ فيلمها به وما يعود إليه في النهاية. تقول بسمة في مقابلة معها “أردت أن أصنع فيلما يستخدم هذه البنية وأن أبدأ بغزة وأن أمضي عبر تواريخ مختلفة، وقد قررت عبر هذه العملية أن أجعل من الفيلم نوعا من إبعاد غزة عن عزلتها بالقول إن هذا الشيء الذي يحدث الآن أمامنا”.

وتضيف “والذي نشهده جميعا في الحاضر مرتبط نوعا ما بتاريخ السكان الأصليين في أمريكا، مرتبط بتاريخ الفاشية في إيطاليا، أو مرتبط بالكولونيالية في فرنسا. إنه ليس إعادة سرد التاريخ بل مساءلة واختبار قدرتنا على النسيان، وإلى اي مدى يمكن أن يكون ذلك أمرا صحيا أو العكس، فضلا عن الاحتفاء بغزة في الوقت نفسه”.

هل يكفي ذلك لتوضيح بنية العنوان، واختيار رمز أوروبوروس؟ وهل ثمة دوافع أعمق من هذا التعبير المباشر عن هدف خارجي؟

والإجابة عن ذلك تتضح في ما تنثره الشريف من إشارات عميقة على مسار تطور أحداث فيلمها، ومن مقاربتها لموضوع الهوية فيه أو في نتاجاتها الفنية الأخرى، وأفلامها القصيرة، من أمثال: “بدأنا بقياس المسافة” 2009، “قصة حليب وعسل” 2011، “أبعد من العين يمكن أن نرى” 2012، “غزة هوم موفي” 2013، و”نوم عميق” 2014 وغيرها؛ وهو ما نراه تعاملا مواربا مع أزمة أو مفارقة الهوية التي تحاصر الشريف بين جذورها التاريخية وتنقلها وعيشها المستمر في مناطق جغرافية وثقافات مختلفة (الكويت، فرنسا، الولايات المتحدة، ألمانيا)، وأثر ذلك في تشكل هويتها أو قل هوياتها المتعددة.

ولا تبدو الشريف بعيدة عن استخدام رمز أوروبوروس في علم النفس التحليلي ولدى مؤسسه عالم النفس السويسري كارل يونغ ومفاهيمه عن اللاشعور الجمعي وأنماطه الأولية أو البدئية؛ التي تربط المرء بخبرات أسلافه من دون أن يشعر بها لأنها تكمن في لاوعيه الجمعي، ووصفه لرمز أوروبوروس بأنه نمط أولي (بدئي) يسبق مرحلة التفرد (individuation) أو بدء تمايز الهوية لدى الفرد.

وهو ما بنى عليه تلميذ يونغ، عالم النفس أريش نيومان، الألماني اليهودي الذي هاجر إلى إسرائيل مع صعود المد النازي في ثلاثينيات القرن الماضي ورأس رابطة علماء النفس التحليليين فيها، استخدامه هذا الرمز في كتابه “أصول الوعي وتاريخه” المنشور بالألمانية عام 1949.

وأصبح لديه كمرادف للنمط الأولي (البدئي) لما قبل تشكل الأنا “pre Ego” وهي بنظره تجربة في الطفولة تسبق التفرد وتمايز الهوية ولا يمكن الفصل فيها بين الطفل الفرد ونوعه الإنساني. ويسميها “حالة الفجر”، وهو العنوان الذي تستعيره الشريف لوصف غزة، بوصفها مهاد أصل هويتها، ما قبل تشكل هويتها الكوزموبوليتانية الجديدة.

وتمثل غزة، التي لم تعش الشريف فيها، موضوعا أثيرا لديها يحضر بقوة في كل أفلامها، لكنه في صورة منجم تحفر فيه لمقاربة هوية مأزومة، تحاصرها أنى حلت، مهما حاولت القفز عليها أو وضع أقنعة عليها، فنراها تنظر إليها من علو عبر عين الطائر، أو ترافلينغ لمرور سيارة مسرعة تلتقط بسرعة تفاصيلها (في فيلمها القصير “غزة هوم موفي” ) وفي هذه العودة إلى المادة الأولى إلى النمط القبلي السابق لتشكل الهوية لديها تبدو بسمة الشريف وكأنها تسعى لأن تدفن سؤال الهوية المأزومة في الفن.

قد يعجبك ايضا
تعليقات