القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

كيف يكون تراب الوطن دواء

121

كتب_فرج العادلي

توقفتُ كثيرًا عندما قرأتُ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كانَ يقولُ لِلْمَرِيضِ: باسْمِ اللَّهِ، تُرْبَةُ أرْضِنَا، برِيقَةِ بَعْضِنَا، يُشْفَى سَقِيمُنَا، بإذْنِ رَبِّنَا.

فكان _صلى الله عليه وسلم_ يُبللُ أحدَ أنامل يده الشريفة بريقه الطاهر، ثم يغمسها في تُرابِ الأرض، ثم يَمسُ بها موضع الألم من المريض؛ فيشفى بإذن الله تعالى، فقلتُ هل تراب الوطن دواء؟!

فتتبعتُ وتقصيتُ الأخبار والآثار التي تدور حول هذا المعنى لعلي أعثر على ضالتي، فوجدتُ فيها أمورًا تقشعر لها الجلود دهشةً، وتهز لها القلوب طربًا، وفرحًا في آن.

فالوطن شيء عزيزٌ على النفس، حبيبٌ إلى القلب، بل إن شئت فقل هو جزءٌ أصيلٌ من الروح، والفؤاد.

فمع البعد عنه ترى القلب يخفق له حنيًا، والروح تتألم له شوقًا، والجسد كله يحترق لينغمس في مائه ويستنشق ترابه، حتى وإن كان في الوطن ما فيه من شدة، وقحط، وعناء..

ومن أعجب ما قرأتُ في ذلك « أن بلالاً _رضي الله تعالى عنه_ الذي عُذبَ في هواجر مكة المُحرقة، ووضعت على صدره الصخور الصماء الثقيلة الملتهبة، فأحكمت النَفسَ وأطبقت الجوانح بالأرض فكان لا يخرج نَفَسَهُ إلا كما يخرج شوك السعدان من الصوف المُبلل، وضرب بالسياط حتى بُليت السياط، وتمزقت الجلود أشلاء، وخارت قوى الجلاد واشتد العذاب وطال ثم جاء الفرج وحُرِرَ، وهاجر بدينه، وعقيدته إلى المدينة المنورة _على ساكنها الصلاة، والسلام … ومع ذلك فكان يهتفُ في دار الهجرة هتافًا يمزق الأكباد شوقًا إلى مكة المكرمة حيث الوطن، فيقول في أبياتٍ تسيل عذوبةً وتقطر حلاوة وجمالًا:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة *

بوادٍ وحولي إذخر وجليل.

وهـل أردن يومًا مياه مجنة *

وهل يبدون لي شامة وطفيل.

فقلت بربي كان في مكة عبدًا معذبًا وصار في المدينة سيدنًا مبجلًا ثم لم يغنهِ ذلك عن الحنين للأوطان !؟.

وهذه امرأة فقيرة كانت ترعى الأغنام في الصحراء القاحلة، والأرض المجدبة، والأكواخ المُهدمة التي لا تقي حرًا ولا بردًا، ولا تجد ماءً باردًا ولا حتى عذبًا، لكنها كانت فائقة الجمال فتزوجت من خليفة المسلمين ونقلها إلى بلاد الشام لكنها ويا للعجب حنت إلى وطنها حنينًا شديدًا حتى أُلهمت شعرًا فقالت:

لَبَيتٌ تخفقُ الأرواحُ فيه …

أحبُّ إليَّ من قصرٍ منيفِ.

وأصوات الرِّياح بكلِّ فجٍّ …

أحبُّ إليَّ من نقرِ الدُّفوفِ.

ولبسُ عباءةٍ وتقرَّ عَيني …

أحبُّ إليَّ من لبسِ الشُّفوفِ..

تخيل حتى القصر حيث الخدم، والحشم، والحرير، لم ينُسها بيتها المليئ بالأرواح، والعفاريت، الذي لا باب له ولا شباك غير بعض القماش البالي.

يقول الأصمعي:_رحمه الله تعالى_ “ثلاثُ خصالٍ في ثلاثة أصنافٍ: الإبلُ تحنُّ إلى أوطانها وإن كان عهدُهَا بها بعيداً، والطيرُ إلى وكره وإن كان موضعه مجدباً، والإنسان إلى وطنه، وإن كان غيرُه أكثر نفعاً.

ويقول القائل: بلادٌ ألِفْناها على كل حالةٍ وقد يُؤْلَفُ الشئ الذي ليسَ بالحَسَنِ

ونستَعْذِبُ الأرضَ التي لا هوا بها

ولا ماؤُهَا عَذْبٌ ولكنَّها وطنُ.

أيها الأكارم إن حبَّ الأوْطانِ فطرةٌ وغريزة:

فكلُّ كائنٍ يُقدِّرُ وطنه، ويُجله، ويعرف حقَّهُ وقدره، ولهذا لا يستغني عنه مخلوق أبداً، فالنملةُ الصغيرة تخرجُ لرزقها ومآربها في رحلةٍ قد تطول بين الجبال، والأشجار، والصخور، والرمال لكنها ترجع إليه سراعة حاملة رزقها لها ولأولادها …

ما زالت نار العجب لم تنطفئ بعدُ من كون تراب الوطن شفاء، وأنا أتجول بين الكتب والأبحاث وقعت عيني على ما أخرجه الأزرقي_رحمه الله تعالى_ في “أخبار مكة”… فقال: قدم أصيلُ الغفاري قبل أن يُضربَ الحجاب على زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم-، فدخل على عائشة -رضي الله تعالى عنها- فقالت له: يا أصيل: كيف عهدت مكة ؟! قال: عهدتُها قد أخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها…

قالت: أقم حتى يأتيك النبي._لم تتحمل ذكر مكة والديار_

فلم يلبث أن دخل النبيُّ_صلى الله عليه وسلم، فقال له: “يا أصيل: كيف عهدت مكة؟!” _نفس السؤال سبحان الله العظيم_

قال: والله عهدتُها قد أخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها، وأغدق إذخرها، وأسلت ثمامها، فقال: “حسبك -يا أصيل- لا تُحزِنَّا” وفي رواية “ويها يا أصيل! دع القلوب تقر قرارها”.

انظر: عائشة الصديقة_رضي الله عنها_ تتلمس أخبار الوطن، ثم يأتي رسول الله … فيسأل نفس السؤال وأيضا لم يتحمل حديثه عن الوطن فالكلمات ألهبت لواعج شوقه، ووهجت جمرة حنينه إلى وطنه الأثير الكريم الغالي على القلب والنفس !! فالقلب اشتاق، والنفس تاقت، ولا سبيل للعودة… فيا أصيل دع القلوب تقر قرارها !

مع أنه _صلى الله عليه وسلم_ لاقى ما لاقى في مكة من تكذيب، وتعذيب! لكنه الوطن يا أحباب!

حقيقة مازلتُ مندهشًا، ومتعجبًا وأريد جوابًا لمَ قد يكون تراب الوطن دواءً ؟!

لكني أخيرًا وقفتُ على آية في كتاب الله تعالى يقول فيها: ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم… ﴾

وجدتُ رب الكائنات سبحانه وتعالى يسوي بين العقوبة بقتل النفس، والخروج من الوطن !( تأمل) فقلت هل فراق الوطن يساوي الموت؟! فتعجبتُ لكني قطعًا صدقتُ، لأنه كلام الله جل في علاه.

إذن فراق الوطن يساوي الموت، والبقاء فيه يساوي الحياة! وليس الشفاء فحسب.

ليس هذا فقط بل « كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَأَبْصَرَ جُدُرَاتِ الْمَدِينَةِ أَوْضَعَ نَاقَتَهُ، وَإِنْ كَانَتْ دَابَّةً حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا»

أعني كان يحثُها على زيادة السير، والسرعة حتى يدخل بلده، ووطنه ومأواه الطيب المبارك، وهذا فيه من الشوق والحب والحنين ما فيه.

ولأن النفس ترتاح في الوطن والديار وتتألم بالفراق وهذا له انعكاساته على الجسد من حيث الصحة، والمرض : فكان يقول بأبي وأمي وروحي ونفسي ﴿ إِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ حَجَّهُ فَلْيُعَجِّلِ الرِّحْلَةَ إِلَى أَهْلِهِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لأَجْرِهِ﴾ ؛ قال العلماء المراد بأهله: أي وطنه، وإن لم يكن له فيها ولد أو أهل. فقلتُ سبحان الله العظيم.

وكان بعض العرب إذا سافر في تجارة أو غيرها أخذ معه حفنة من تراب الوطن، ليستنشق منها إذا ازداد شوقه، وحنينه لوطنه ليتصبر به)

ولقد سمعت مرة فتاة صغيرة جميلة تغني لوطنها وتقول : حب الزهور أيام، وحب الطيور أعوام، وحبي لك يا وطني على طول الدوام.

أخيرًا

إن حب الوطن أفعال لا أقوال.

فمن يحب وطنه حقًا وجب عليه أن يحافظ عليه، ويبذل ماله، وولده، ونفسه في سبيله، فها هي نملة سليمان _عليه السلام_ تقف أمام الجيش، وتعرض نفسها للخطر، لتدافع عن وطنها، وتحذر قومها من الهلاك! (الوطن فطرة)

فعلينا أن نبذل قصارى الجهد في تنميته، وتحسين صورته، وتقدمه، ورقيه، وازدهاره، ورفعته بين الأمم.

وأما من يقصر في عمله، أو يغش فيه، أو يخرب، أو يدمر، أو يرتشي، أو ينشر المعاصي التي تأتي بالخراب… فهذا ليس محبًا لوطنه، بل لا يستحق أن يشرب من مائه، أو يتنفس من هوائه.

يقول شوقي_رحمه الله تعالى_

وَطَنِي لَوْ شُغِلْتُ بالخُـلْدِ عَنـــــــْه نَازَعَتْنِي إلَيْه في الخُــــلْدِ نفْسِي.

اللهم احفظ بلادنا من كل مكروه وسوء آمين.

قد يعجبك ايضا
تعليقات