القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

قوص…والأقصر الإسلامية

137
تقرير_ نهال يونس
عُرفت الأقصر على مر العصور بأنها كنز للآثار المصرية القديمة وذلك بما تحويه من معابد ومقابر ومغارات تجعلها من أكبر المتاحف الفرعونية المفتوحة فى مصر والعالم. ولكن القليل منا لا يكاد يعلم أن هذا الثراء الأثرى قد عصف بشخصية الأقصر الإسلامية، فالسائح قد لا يرى من ملامحها الإسلامية إلا مسجد المتصوف الشهير ( أبو الحجاج) الملاصق لمعبد الأقصر وربما مسجدى ( الشيخ الحنفى) و(العتيق).
هذا واقع لا نملك تغييره فى عاصمة الفراعنة العتيقة…
فمن الطبيعى أن تضيع تلك المساجد من خارطة السائح بسبب الأولوية التى يعيرها للتراث الفرعونى الذى تعج به المدينة. غير أن هذا الذى يزور الأقصر للمرة الثانية أوالثالثة قد لا يسعفه الوقت والجهد لأن يعيد رؤية معالمها الغزيرة بنفس اللهفة والتشوق، فيبدأ بالسؤال عن الجديد، فيجد إجابته فى مدينة (قوص) التى تحتضن أغلب آثار الأقصر الإسلامية.
تقع قوص على بعد 30كم شمال الأقصر وكانت عاصمة الصعيد فى العصور الوسطى عندما كانت الأقصر مدينة صغيرة مغمورة. فعلاوة على مكانتها كعاصمة إسلامية للصعيد، اشتهرت قوص كمركز للاشعاع العلمى وشريان تجارى هام ومحطة لتجمع الحجيج من كل أنحاء المنطقة حيث تتحرك القوافل منها إلى مينائى عيذاب والقصير على البحر الأحمرالموازيين لمدينة قوص.
وتفخر قوص بأنها شهدت بناء ثانى مسجد فى مصر بعد مسجد (عمرو بن العاص) والذى يعرف بــ ( المسجد العمرى). عاش فيها فطاحل العلماء كالقاضى (على بن دقيق العيد) والشاعر المعروف ( البهاء زهير) الذى درسنا قصيدته المعروفة
سقى واديا بن العريش وبرقة من الغيث هطال الشآبيب هتان
والعلامة (بن الجينى) والشاعر ( بن مطروح) وغيرهم حيث تعدى عددهم المائتان وفقا للمصادر التاريخية. أما حديثا فقوص مسقط رأس قائدة الحركة النسوية ( هدى شعراوى)… ومن المفارقات المدهشة أن تأتى محررة المرأة العربية من قلب قلب صعيد مصر الذى مازال يعرف بتقاليده الصارمة تجاه التحرر النسوى. من قوص أيضا يأتى (محمد محمود حسن) الذى نال جائزة متميزة لجهوده فى بناء السد العالى وأسرة ( الزرعى ) التى كان لها الفضل فى تأسيس صناعة الزيوت الطبيعية المصرية والتى مازالت تشتهر بها قوص.
وطبقا للمصادر التاريخية فإن قوص واحدة من ثلاث مدن بما فيها ميناء (القصير) على بعد 150 كم جنوبى الغردقة و(فوة) بمحافظة كفر الشيخ ـــ ثلاث مدن تشتهر بغزارة عمارتها الإسلامية، وذلك لإن جميعها كانت مراكز تجارية هامة تقع على مفترق طرق القوافل القديمة فقصدها المتصوفة الذين عمل أغلبهم بالتجارة التى كانت تمنحهم حرية تقسيم أوقاتهم بين العبادة والعمل. خلف هذا الحضور الصوفى العديد من المساجد والأضرحة والبيوت العربية والتكايا.
لا تتوقع عند دخولك إلى قوص أن تجد عددا مهولا من الأبنية القديمة… فهى ليست (فوة) مدينة المساجد التى تحتضن أكثر من 366 مبنى إسلامى فى مساحة لا تتعدى الثلاث كيلو مترات. كما أن المبانى الأثرية هناك ليست فى حالة جيدة فلقد طالها الإهمال و النسيان…آثارها غير الإسلامية قليلة جدا وتحتاج إلى جهد جهيد لتجميعها وقراءة ما بها، فقوص لم يكن لها أى وجود قبل العصور الوسطى …ما يرجع من آثارها للعصور القديمة جاء بسبب قربها من مدينة الأقصر أو طيبة..عاصمة الدولة المصرية الحديثة.
يقول محمود عباس العقاد إن المراجع الإسلامية لم تذكر بعد القاهرة والإسكندرية غير قوص..فلقد كانت مركزا لست عشرة مدرسة دينية قامت بدور تربوى تنويرى خلال العصور الوسطى. أسمها مشتق من ( قيست) وهو مسقط رأس الإله (حورس) و( قيست) فى اللغة المصرية القديمة هو مكان لتجمع الكهنة و المفكرين والحكماء والفلاسفة…أما فى اللغة القبطية فنفس الكلمة تعنى ( الدفن) وهذا تتويج لأهلها الذين عرفوا ببراعتهم فى تحنيط ودفن الملوك.
ويقول الرحالة ( ابن جبير) إن قوص تمتلىء بالأسواق التى تعج بالتجار من اليمن و الهند و الحبشة وذلك لأنها كانت محطة على طريق التجارة و ملتقى الحجاج من المغرب العربى و القاهرة والإسكندرية حيث تبدأ رحلتهم مخترقة صحراء ( عيذاب) إلى ميناء القصير.و بسبب الحراك التجارى أكتسب تجار قوص خبرة كبيرة على مر العصور جعلتهم يتبؤون مكانة مرموقة كأمهر تجار الصعيد قاطبة، فكل التجار الحاذقين من الأقصر وأسوان ونواح متفرقة من جنوب مصر يرجع أصهلم إلى قوص!!
كان ميناء عيذاب يستقبل السفن المحملة بالبخور والتوابل والحرير والصمغ من اليمن و الهند والحبشة حيث تنقل الواردات إلى قوص على ظهر الإبل ومن قوص إلى الفسطاط..وكان بها دار لصك العملة أنشاؤه الفاطميون فى قوص لتسهيل تحصيل الرسوم و الضرائب الجمركية على البضائع…
كان من الطبيعى أن تزخر مدينة تجارية بهذا الحجم بالكثير من الفنادق والاستراحات والوكالات التجارية والتى لم يتبق منها سوى اثنتان: وكالة عودة ووكالة محروس…والحق أننى لم أعلم بوجودهما إلا بعد أن غادرت المدينة ولكنى سمعت أنهما فى حالة يرثى لها من الإهمال.
ويقول الرحالة ابن الكندى إن قوص تعرف بأجود أنواع التمور وخشب ( الكرمى) و الذهب والأحجار الكريمة…وإنه يفصلها عن الفسطاط طريق يتم قطعه على البغال فى مدة تمتد إلى اثنى عشرة يوما. كتب المقريظى فى وصف المدينة أنه بها ما لا يقل عن 150 حديقة عامة تمتد كل منها على مساحة 20 فدان وتروى بواسطة سواقى تضخ إليها المياه عبر قنوات متصلة بنهر النيل. وعلى الرغم من مجدها الذائع لم يتبق منه غير بضعة مساجد والوكالات التجارية التى كانت تقوم على خدمة القوافل. حتى المسجد العمرى، فهو ليس بالشكل الذى بناه عليه عمربن العاص، فلقد تم هدمه وبناؤه عدة مرات ولا يظهر من معالمه الأصلية إلا القليل.
لكن ليست تلك نهاية الجولة فلازال هناك وجه حى من أوجه تميزها وهو صناعة الزيوت الطبيعية، فالأهالى مازالوا يلجأون إلى معصرة الزيوت الشهيرة هناك فى ظل غياب المراكز الصحية. فى عصرها الذهبى بلغ عدد معاصر الزيوت بها إلى اثنتى عشرة لم يتبق منها غير واحدة يملكها حاليا الحاج يونس الزرعى. ذهلت من كم العناصر من توابل وزهور وخضروات و التى لم أتخيل أن يكون لها عصائر: الثوم، الفجل، البقدونس..اليانسون..الكمون…كل له استخدامه الخاص فى مداوة مرض معين وكل له سعره الخاص به…الأسعارتدعو إلى الضحك فى ظل ارتفاع سعر الدواء.
تظل قوص كنز مختفى وفى عصر نعيد فيه اكتشاف مصر لابد أن تخرج المدينة القديمة إلى النور.
               
قد يعجبك ايضا
تعليقات