القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)

380

 

بقلم د/ محمد بركات

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

 

(يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) (سورة الفجر، الآية: 24)

 

تأمل جيداً وتدبر بكل حواسك هذه الآيات الكريمات البينات من سورة الفجر، تصور لك مشهداً من مشاهد يوم القيامة، حين يتذكر الإنسان وأنّى له الذكرى.

 

فتراه يردد قائلاً (يا ليتني قدمت لحياتي) .. هذا الإنسان ، الذي ” غفل عن حكمة الابتلاء بالمنع والعطاء، والذي أكل التراث أكلاً لمًّا، وأحب المال حباً جمًّا. والذي لم يكرم اليتيم ولم يحضُّ على طعام المسكين. والذي طغى وأفسد وتولى.. يومئذ يتذكر. يتذكر الحق ويتعظ بما يرى.. ولكن لقد فات الأوان وأنَّى له الذكرى؟ 

ولقد مضى عهد الذكرى، فما عادت تجدي هنا في دار الجزاء أحداً! وإن هي إلا الحسرة على فوات الفرصة في دار العمل في الحياة الدنيا! وحين تتجلى له هذه الحقيقة.

، يقول ( يا ليتني قدمت لحياتي).. يا ليتني قدمت شيئاً لحياتي هنا. فهي الحياة الحقيقية التي تستحق اسم الحياة. وهي التي تستأهل الاستعداد والتَّقدِمةَ والادخار لها. يا ليتني.. أمنية فيها الحسرة الظاهرة، وهي أقسى ما يملكه الإنسان في الآخرة”. 

 

   حين يردد ابن آدم – الذي قد يكون أيَّ أحدٍ منَّا – تلك العبارة بحسرة وندم وألم، فإنما يرددها من بعد أن يرى حقيقة الحياة الخالدة، التي لم يقدم في حياته المؤقتة القصيرة هذه التي نعيشها، لما يجب الإعداد له وتقديمه لتلك الحياة الحقيقية الدائمة.   

  

ومن الخبرات الحياتية التي يتعلم منها المرء كلما تقدم به العمر، أن الفرصة التي تأتيك في لحظة زمنية معينة، ربما لا تأتيك تارة أخرى بنفس الكيفية والظروف التي أتتك في المرة الأولى، وبموجب ذاك المنطق، يوصي المجربون والحكماء بانتهاز الفرصة من فورها واستثمارها أفضل استثمار.. وهل حياتنا الدنيا المؤقتة هذه سوى فرصة، يُحسِن استثمارها من يحسن، ويسيء من يسيء.

 

وهذا كله ضمن سياق الفرص التي نتحدث عنها، يمكن القول إن رمضان هو أحدها أو إحدى المنح الربانية التي يكرم الله بها عباده، والحكيم الحصيف والذكي الفطن هو من ينتهز فرصة صحته وقوته حالما يرزقه الله بلوغ رمضان. 

هذا الشهر إنما أيام معدودات، فما إن يبدأ حتى يبدأ عدّاد الرحيل بالاشتغال. إن انتهى اليوم الأول منه فلن يرجع إلا بعد عام كامل، وهذا أمر بدهي معروف لا يحتاج لتذكير وتنويه، لكن ما يحتاج للتنويه والتذكير هو أنه لا أحد يضمن لك الحياة أو الصحة والعافية والقوة لأن تلتقي باليوم الأول من رمضان العام القادم، بعد أكثر من ثلاثمائة وستين يوماً، ولعل هذا هو سر الدعوة إلى انتهاز كل لحظات هذا الشهر، واستثماره للغد الحقيقي، حتى لا يصل المرء إلى اللحظة التي يضطر حينها أن يردد عبارات الندم والحسرة على ما فرط وضيّع.

 

إنه من قلة الحيلة والحكمة، إهدار الوقت في رمضان وعدم استثماره بالشكل الأمثل، فإن رمضان ما إن يبدأ حتى يعمل توقيت ساعته تنازلياً وبسرعة لا تفهمها، نعم قد يستشعر البعض ثقل أوقاته في البدايات، ولكن سرعان ما يعتاد المرء على النظام خلاله، فيبدأ التكيف مع الظروف، لكنه يفاجأ أنه دخل العشر الأواخر، وبعدها بقليل يجد نفسه أمام التلفاز في برنامج عن هلال شوال ينتظر خبر الرؤية!

 

هكذا رمضان، كما الفرص الثمينة التي تلوح لنا في حياتنا فجأة، والتي إن لم نستثمرها بالسرعة المناسبة والشكل الأمثل، فإنها تذهب سريعاً وتختفي، لتبقى الندامة والحسرة بعدها! فمن يرضى أن يتعامل مع رمضان بهذه الصورة؟ 

في الحديث، نجد سيد الأولين والآخرين يحثنا على المسارعة إلى فعل الخيرات، قبل أن تلهينا شواغل الدنيا وما أكثرها: “بادروا بالأعمال، فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً، ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا“، ويقول الحسن البصري رحمه الله: من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره. 

إن المسارعة إلى فعل الخيرات من أخلاق المؤمنين الصادقين ومن طبائعهم، وإن مثل هذه الأعمال إنما دلالة على رجاحة في العقل وسلامة في القلب، وحتى لا نطيل في الكلام أكثر، نقول بأن كل أحد منا سيأتي ويقابل جبار السماوات والأرض وحيداً منفرداً. لا شفيع ولا وسيط. سينظر سبحانه إلى أحدنا وما قدمت يداه، فإن خيراً فخير، وإن شراً فشر، أو يحكم في خلقه ما يشاء، وهو العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة، ولا يظلم أحدا.

 

 لابد أن ندرك أيضاً بأننا كتلٌ حية متحركة تحمل الذنوب والآثام، مثلما الخيرات والحسنات، ووجودنا مؤقت في حياة قصيرة جداً، والأهم من كل ذلك أننا على موعد أكيد مع الله، وهو ما يدعونا إلى التدرب على الانعزال بين الحين والحين، والتفكر ليوم الانعزال والانفراد ذاك مع الله.. تلك العزلة التي لا نتمنى أن نخرج عنها إلا نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليأخذ بأيدينا إلى تلكم الجنة التي عرضها السموات والأرض، ندخلها ونستمتع إلى أصوات خزنتها وهم يرددون (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ).

 

جاء في تفسير الإمام ابن كثير رحمه الله:

( يقول ياليتني قدمت لحياتي ) يعني : يندم على ما كان سلف منه من المعاصي – إن كان عاصيا – ويود لو كان ازداد من الطاعات – إن كان طائعا – كما قال الإمام أحمد بن حنبل :

حدثنا علي بن إسحاق ، حدثنا عبد الله – يعني ابن المبارك – حدثنا ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن جبير بن نفير ، عن محمد بن أبي عميرة – وكان من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : لو أن عبدا خر على وجهه من يوم ولد إلى أن يموت هرما في طاعة الله ، لحقره يوم القيامة ، ولود أنه يرد إلى الدنيا كيما يزداد من الأجر والثواب .

ورواه بحير بن سعد ، عن خالد بن معدان ، عن عتبة بن عبد ، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – .

 

وجاء في تفسير الإمام القرطبي رحمه الله:

قوله تعالى : يقول ياليتني قدمت لحياتي

أي في حياتي . فاللام بمعنى في . وقيل : أي قدمت عملا صالحا لحياتي ، أي لحياة لا موت فيها . وقيل : حياة أهل النار ليست هنيئة ، فكأنهم لا حياة لهم فالمعنى : يا ليتني قدمت من الخير لنجاتي من النار ، فأكون فيمن له حياة هنيئة .

 

، وجاء في تفسير الإمام الطبري رحمه الله:

القول في تأويل قوله تعالى : (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)

وقوله: ( يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن تلهُّف ابن آدم يوم القيامة، وتندّمه على تفريطه في الصَّالِحات من الأعمال في الدنيا التي تورثه بقاء الأبد في نعيم لا انقطاع له، يا ليتني قدمت لحياتي في الدنيا من صالح الأعمال لحياتي هذه، التي لا موت بعدها، ما ينجيني من غضب الله، ويوجب لي رضوانه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هَوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في قوله: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي قال: علم الله أنه صادق، هناك حياة طويلة لا موت فيها آخر ما عليه.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ) هُناكُم والله الحياة الطويلة.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ) قال: الآخرة.

 

وجاء في تفسير الإمام البغوي رحمه الله تعالى: 

“يقول يا ليتني قدمت لحياتي”، أي قدمت الخير والعمل الصالح لحياتي في الآخرة، أي لآخرتي التي لا موت فيها.

 

فلنعد لحياة نحن قادمون عليها..نسأل الله حسن الختام ومسك الأيام.

قد يعجبك ايضا
تعليقات