القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

رمضان ويوم الفرقان ” الجزء الثالث “

95

 

إعداد / محمـــد الدكـــروى

 

ونكمل الجزء الثالث مع رمضان والفرقان، وقد توقفنا مع غزوة بدر عندما فحميت قريش لذلك أشد الحمية، وعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف، ورتب المسلمين على منازلهم ووعظهم، وذكرهم بما أعد الله لهم من النصر والظفر العاجل، وثواب الله فى الآخرة إذا هم صبروا على لقاء عدوهم وصدقوه القتال، وأخبرهم أن الله قد أوجب الجنة لمن قتل في سبيله، فقام عمير بن الحمام وقال “يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟ فقال نعم، فقال بخ بخ، فقال ما يحملك على قولك بخ بخ؟ فقال لا والله يا رسول الله، إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال فإنك من أهلها” فكان أول شهيد، فلما رتب رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف قال لهم “لا تتقدموا حتى تسمعوا تكبيرى” وصعد فى العريش يدعو ربه ويسأله النصر حتى جاءه جبريل يقود جند الرحمن من الملائكة مددا من الله لرسوله وللمؤمنين على عدوهم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبر أبوبكر وسعد بن معاذ وكان معه فى العريش فكبر المسلمون لتكبيرهم. 

 

وجدوا بالتكبير، وأخذ المشركين رجفة عظيمة لهذا التكبير وألقى الله الرعب في قلوبهم والتقى الجمعان ونشب القتال، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ملء كفيه من الحصى ورمى وجوه القوم فلم تترك رجلا منهم إل ملأته عينيه، وشغل المشركون بالتراب في أعينهم، وشغل المسلمون بقتلهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلي ويدعوه ربه ويسأله فى سجوده النصر وإنجاز وعده، فلم تلبث المعركة إلى ساعة من نهار، ثم انفصلت عن سادات قريش وأئمة الكفر صرعى فى أماكنهم التى أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، وأسرى مقرنين في الحبال بيد المؤمنين كالأنعام، وولت فلول قريش الأدبار على شرح حال، ولم تقم للشرك بعد هذه الوقعة قائمة، وما زال يتناقص حتى تلاشى من مكة مرة واحدة يوم الفتح، وبعد فما أجدر المسلمين بالوقوف والتأمل طويلا عند كلمة سعد بن معاذ والمقداد رضي الله عنهما وما أولاهما أن يذكروا هذا اليوم، يوم الفرقان، لا كل عام من رمضان، بل كل يوم وكل ساعة.

 

ولعل تلك الذكرى تبعث في نفوس الخلف من قوة إيمان السلف وشجاعتهم وبيعهم أنفسهم لله لا لأعدائه ما ينجيهم اليوم من عدوهم، ولقد كان وصف بعض ما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبى بكر الصديق رضى الله عنه، وما لقياه في رحلتهما فرارا بقبس نور النبوة أن تطفئه أفواه المشركين حتى يكون ذلك درسا ينتفع به المجاهدون من أمته فى سبيل نصرة حقهم على باطل غيرهم، ولقد جاء هذا الوصف على لسان أبي بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هجرته، فعن البراء بن عازب رضى الله عنه قال جاء أبو بكر رضي الله عنه إلى أبى في منزله، فاشترى منه رحلا، فقال له أبى يا أبا بكر، حدثني كيف صنعتما ليلة سريت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم، أسرينا ليلتنا ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق لا يمر فيه أحد، فرُفعت لنا صخرة طويلة، لها ظل، لم تأتى عليها الشمس بعد، فنزلنا عندها، فأتيت الصخرة وسويت بيدي مكانا ينام فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ظلها.

 

ثم بسطت عليه فروة، ثم قلت نم يا رسول الله، وأنا أنفض لك ما حولك، فنام وخرجت أنفض له ما حوله، فإذا أنا براعى مقبل بغنمه إلى الصخرة يريد منها مثل الذى أردنا، فقلت لمن أنت يا غلام؟ فقال لرجل من أهل المدينة أو مكة، فقلت أفى غنمك لبن؟ قال نعم، قلت أفتحلب؟ قال نعم، فأخذ شاة، فقلت انفض الضرع من الشعر والتراب والقذى، ففعل وحلب في قَعب معه كثبة أى شيئا قليلا من لبن، ومعى إداوة حملتها للنبى صلى الله عليه وسلم يرتوى ويشرب ويتوضأ، فأتيت النبى صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فكرهت أن أوقظه، فوقَفت حتى استيقظ، فصببت على اللبن من الماء حتى برد أسفله، فقلت اشرب يا رسول الله، قال فشرِب حتى رضيت، ثم قال لى “ألم يأن للرحيل؟” قلت بلى، فارتحلنا بعد ما زالت الشمس، واتبعنا سراقة بن مالك بن جُعشم، ونحن فى جلد، أى فى صُلب من الأرض، فقلت يا رسول، أتينا، فقال “لا تحزن، إن الله معنا” فدعا عليه النبى صلى الله عليه وسلم، فارتطمت يد فرسه إلى بطنها. 

 

فقال إنى قد علمت أنكما دعوتما عليّ، فادعوا لى، فالله لكما أن أَردّ عنكما الطلب، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فجعل لا يلقى أحدا إلا قال قد كفيتم، ما ها هنا، فلا يلقى أحدا إلا رده، قال “ووفى لنا” رواه البخارى ومسلم، وهكذا جاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام، فإن الجهاد فى سبيل الله من أفضل القربات، ومن أعظم الطاعات، بل هو أفضل ما تقرب به المتقربون وتنافس فيه المتنافسون بعد الفرائض، وما ذاك إلا لما يترتب عليه من نصر المؤمنين وإعلاء كلمة الدين، وقمع الكافرين والمنافقين وتسهيل انتشار الدعوة الإسلامية بين العالمين، وإخراج العباد من الظلمات إلى النور، ونشر محاسن الإسلام وأحكامه العادلة بين الخلق أجمعين، وغير ذلك من المصالح الكثيرة والعواقب الحميدة للمسلمين، وقد ورد فى فضله وفضل المجاهدين من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ما يحفز الهمم العالية، ويحرك كوامن النفوس إلى المشاركة في هذا السبيل، والصدق فى جهاد أعداء رب العالمين، وهو فرض كفاية على المسلمين. 

 

إذا قام به من يكفى سقط عن الباقين، ويقول المؤرخون إن هذه الرحلة قد استمرت سبعة أيام متتابعة، وقد كانت فى أيام قَيظ، حتى إن بعض المؤرخين يذهب إلى أنها كانت في شهر يوليه، ويقول آخرون اعتمادا على حساب فلكى إنها كانت فى سبتمبر، وعلى كلا الرأيين فهى في وقت شديد الحرارة، وخاصة فى جزيرة العرب، وما أن بلغ أهل المدينة مقدم رسول الله، حتى خرجوا إليه يستقبلونه، وقد كانوا ينتظرون قدومه كل يوم، حتى إذا زال الظل عنهم، رجعوا إلى ديارهم، وفى آخر يوم من رجوعهم، سمعوا رجلا من اليهود ينادى بأعلى صوته فوق إحدى آكام المدينة وهو يقول “يا معشر العرب، هذا جدكم أى حظكم الذى تنتظرون” فخرجوا يحملون أسلحتهم إعزازا لرسول الله، وتكريما لدين ربهم الذى أنعم عليهم به على يد محمد بن عبدالله وليد مكة، والمهاجر منها إلى المدينة، التى أصبحت فيما بعد مركز الدعوة الإسلامية، والهداية الإلهية، إلى أن ضمت رفاته الشريفة، وفازت بشرف بيت الرسول صلى الله عليه وسلم. 

 

كما فازت مكة ببيت الله الحرام، ويأبى الله إلا أن تكون كلمته هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، فإن تلك النواحى من عبر هجرة الرسول الكريم وفراره بعقيدته، توضح لنا كيف جاهد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام الذين أخلصوا نفوسهم لله، في سبيل إحقاق الحق وإزهاق الباطل، ويجب أن يكون لنا من هذا درس نتخذه مبدأ أعلى للوصول إلى غاياتنا وتحقيق أهدافنا، ما دامت في سبيل الله، وفي سبيل إحقاق الحق، وإبطال الباطل، ألا فليكن للمسلمين عبرة من تاريخ رسولهم الكريم صلى الله عليه وسلم، من دروسه في تحمل المشاق في سبيل عقيدتهم، وليعلموا أن عقيدتهم التي فرّطوا فيها ليست رخيصة القيمة وإنما بُذل فى سبيلها دماء ذكية، ونفوس أبيّة، وقلوب طاهرة، ورؤوس شامخة، فعليهم أن يحرصوا عليها، ويستمسكوا بها، ويدفعوا عنها من يريدها بسوء، أو يكيد لها بشر، وليعلموا أن أى شيءٍ فى هذه الحياة لن ينال بسهولة، وبقدر الجهد وبذل التعب، يكون الجزاء والثمن، وليس للكسالى إلا الخسار والدمار.

قد يعجبك ايضا
تعليقات