القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

رمضان والقيروان ” الجزء الرابع “

97

إعداد / محمـــد الدكـــرورى

ونكمل الجزء الرابع من رمضان والقيروان، ولم تلبث المدينة أن عمرت بعد تخطيط الجامع بالدور ومختلف الأبنية والمساجد، وشد الناس إليها الرحال، وعظم قدرها، وتحقق الرجاء من بنائها وأصبحت بحق قاعدة للمسلمين في بلاد المغرب، كانت القيروان فى وسط الصحراء ولم يمنعها انعزالها هذا من أن تنمو وتكبر، وإذا كان عقبة بن نافع قد عُزل عنها فترة من الزمن فإنها استعادت عظمتها بعودته عام واحد وستين من الهجرة وظلت ما يقرب من أربعمائة عام على رأس مدن إفريقية والمغرب، وكان لها سور له أربعة عشر بابا، وكانت سوقها متصلة بالمسجد من جهة القبلة وممتدة إلى باب يعرف باسم باب الربيع، وذكر البكرى أنه كان لهذه السوق سطح متصلة به جميع المتاجر والصناعات وأن هذا السطح قد تعرض لبعض التهدم، وأمر هشام بن عبد الملك بترميمه عام مائه وخمسة من الهجرة، وإن القيروان اكتسبت نوعا من الاحترام والتعظيم باعتبارها البلد الذى أسسه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وظهر بها على أيديهم كثير من الكرامات، واستقر بها بعضهم مدة من الزمن، وهي آخر ما دخله الصحابة من بلاد المغرب، فكل هذه الأمور هيأت القيروان لدور الريادة العلمية فى إفريقية والمغرب حتى وصفها أبو إسحاق الجبنيانى بقوله القيروان رأس وما سواها جسد، وما قام برد الشبه والبدع إلا أهلها ولا قاتل ولا قتل على أحياء السنة إلا أئمتها، وقد لهج المؤلفون القدامى بفضل القيروان على سائر بلاد المغرب فى المجال العلمى من ذلك ما وصفها به ما قد يشي بأنها منبع الولاية والعلوم، فهى لأهل المغرب أصل كل خير، والبلاد كلها عيال عليها، فما من غصن من البلاد المغربية إلا منها علا، ولا فرع في جميع نواحيها إلا عليها ابتنى، كيف لا ومنها خرجت علوم المذهب وإلى أئمتها كل علم ينسب ولا ينكر هذا خاص ولا عام، ولا يزاحمها فى هذا الفضل أحد على طول الأمد والأيام، وهكذا أصبحت القيروان دار العلم الإفريقية وبرز فيها كبار المحدثين والفقهاء والقراء ورحل إليها أهل المغرب والأندلس لطلب العلم.

وقد نافح أهلها عن مذاهب السلف فصارت دار السنة والجماعة بالمغرب، لقد قامت القيروان بدور كبير في فتح شمال إفريقية كله والأندلس ونشر الإسلام في المغرب وأصبحت من أهم مراكز الحضارة الإسلامية، ولقد تميّز كل عصر من عصور القيروان بعدد وافر من الأسماء والاعلام فى شتى ضروب العلم والمعرفة لما كانت عاصمة المغرب العربى وأعظم مدن القارة الإفريقية ومنارة عالية للإشعاع الفكرى والدينى والحضارى فى عصور الأغالبة والفاطميين والصنهاجيين، ومن هؤلاء الأعلام الإمام سحنون وابن رشيق القيروانى وابن شرف وأسد بن الفرات وابن الجزار، لكن المهتمين بالتاريخ يذكرون خصوصا اسم المعز بن باديس الصنهاجي كأكبر رمز لما بلغته القيروان من حضارة فى عهد الصنهاجيين وعبد الله بن الأغلب الذى جعل من القيروان اسما ملأ الدنيا، أما عقبة بن نافع فإنه يظل الفاتح والمؤسس، فكان من أوائل من قام بالتعليم في مدينة القيروان أولئك العشرة من التابعين الذين أرسلهم عمر بن عبد العزيز.

ليعلموا الناس وكان من أشهر أولئك العشرة إسماعيل بن عبيد الله بن أبى المهاجر الذى كان بالإضافة إلى أنه عامل للخليفة من أكثر أفراد تلك البعثة اندفاعا فى نشر الدين وإدخال البربر إلى الإسلام، وكان منهم عبد الله بن يزيد الحبلى الذى شهد الاستيلاء على الأندلس مع موسى بن نصير، ثم عاد إلى القيروان ومات فيها، ومنهم أيضا إسماعيل بن عبيد المشهور بلقب “تاجر الله” وهو الذى بنى المسجد المعروف باسم مسجد الزيتونة، كما بنى سوقا للتجارة عرفت باسم سوق إسماعيل، وقد استشهد غريقا فى إحدى الغزوات البحرية لصقلية سنة مائة وسبعة من الهجرة ومنهم عبد الرحمن بن رافع التنوخى أول من تولى القضاء بمدينة القيروان، وأما رواد الفقه فى القيروان فهم كثير منهم الإمام سحنون بن سعيد الفقيه صاحب أبى القاسم وهو تلميذ الإمام مالك ومؤلف كتاب المدونة والذى كان له دور كبير فى تدوين المذهب المالكى، وقد حضر دروس هذا الفقيه العديد من طلاب الأندلس الذين قاموا بنشر مذهبه فيما بعد.

وقد عرفت من رجال الفقه كذلك أسد بن الفرات قاضى إفريقية فى عهد الأغالبة وقائد الحملة إلى صقلية وفاتح الجزيرة ومحمد ابن الإمام سحنون بن سعيد وابن أبى زيد القيروانى، كما اشتهر فيها من الشعراء أبو عبد الله القزاز القيروانى، والحسين بن رشيق القيروانى، وابن هانئ الأندلسى، وكان من بين علمائها عبد الكريم النهشلى عالم اللغة وكان من أهل الأدب أبو إسحاق وهو الحصرى القيرواني صاحب زهر الآداب، أما عن مدرسة الطب فقد اشتهرت منها أسرة ابن الجزار التى توارثت الطب أبا عن جد، وقعها على أساس حاجات إستراتيجية واضحة، وقد اختار لها موضعا بعيدا عن البصر فى وسط البلاد ولئلا تمر عليها مراكب الروم فتهلكها، ولقد استقطبت القيروان أعدادا هائلة من البربر المسلمين الذين جاءوا لتعلم الدين الجديد، قال ابن خلدون عند حديثه عن عقبة فدخل إفريقية وانضاف إليه مسلمة البربر، فكبر جمعه ودخل أكثر البربر في الإسلام ورسخ الدين، ولا شك أن الفاتحين قد خصصوا لهم من يقوم بهذه المهمة.

ومن القيروان انتشر الإسلام فى سائر بلاد المغرب، فقد بنى عقبة بالمغربين الأقصى والأوسط عدة مساجد لنشر الإسلام بين البربر، كما ترك صاحبه شاكرا فى بعض مدن المغرب الأوسط لتعليم البربر الإسلام، ولما جاء أبو المهاجر دينار لولاية إفريقية تألف كسيلة وقومه وأحسن إلى البربر، فدخلوا فى دين الله أفواجا ودعم حسان بن النعمان فيما بعد جهود عقبة في نشر الإسلام بين البرير حيث خصص ثلاثة عشر فقيها من التابعين لتعليم البربر العربية والفقه ومبادئ الإسلام، وواصل موسى بن نصير هذه المهمة حيث أمر العرب أن يعلموا البربر القرآن وأن يفقهوهم فى الدين، وترك فى المغرب الأقصى سبعة وعشرين فقيها لتعليم أهله، وكان كثير من أفراد الجيش قد صحبوا معهم زوجاتهم، ومنهم من اتخذ بإفريقية السراري وأمهات الأولاد، وقال أبو العرب روى بعض المحدثين أن عبد الله بن عمر بن الخطاب لما غزا مع معاوية بن حديج كانت معه أم ولد له، فولدت له صبية من أم الولد وماتت، فدفنها في مقبرة قريش بباب سلم.

فاتخذتها قريش مقبرة يدفنون فيها لمكان تلك الصبية، ومن هنا كان لا بد من الاهتمام بتعليم النشء المسلم مبادئ الإسلام واللغة العربية ولذلك فقد نشأت الكتاتيب بالقيروان فى وقت مبكر جدا، فقد روى عن غياث بن شبيب أنه قال وكان سفيان بن وهب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بنا ونحن غلمة بالقيروان فيسلم علينا ونحن فى الكتاب وعليه عمامة قد أرخاها من خلفه، وكان سفيان بن وهب قد دخل القيروان مرتين أولاهما سنة ستين للهجرة أى بعد الانتهاء من تأسيس القيروان بخمس سنوات، والثانية سنة ثمانى وسبعين للهجرة، وفي عهد ولاية إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب فى عام مائتان وواحد وستين هجريا، قد بدأت الفتن تدب بين أمراء الأغالبة وكان إبراهيم بن أحمد سفاحا لم تسلم منه عامة الناس ولا أقرب الناس إليه وكان غدره بسبعمائة من أهل بلزمة سنة مائتان وثمانون هجريا، سببا من أسباب سقوط دولة بني الأغلب، وفى نفس السنة شقت عصا الطاعة فى وجه هذا الأمير مدن تونس، وباجة، وقمودة، وغيرها.

قد يعجبك ايضا
تعليقات