القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

رمضان والقيروان ” الجزء الثالث “

115

إعداد / محمـــد الدكـــرورى

ونكمل الجزء الثالث من رمضان والقيروان، وقد استقدم إبراهيم بن أحمد الأغلبى أعدادا كبيرة من علماء الفلك والطب والنبات والهندسة والرياضيات من المشرق والمغرب وزوده بالآلات الفلكية، وكان إبراهيم بن أحمد يبعث كل عام وأحيانا كل ستة أشهر بعثة إلى بغداد هدفها تجديد ولائه للخلافة العباسية واقتناء نفائس الكتب المشرقية فى الحكمة والفلك مما لا نظير له في المغرب واستقدام مشاهير العلماء فى العراق ومصر، وعلى هذا النحو أمكنه فى أمد قصير أن يقيم فى رقادة نموذجا مصغرا من بيت الحكمة في بغداد، ولم يلبث هذا البيت أن وقع فى أيدى الفاطميين بعد سنوات معدودة من وفاته، ولقد كان بيت الحكمة معهدا علميا للدرس والبحث العلمى والترجمة من اللاتينية، ومركزا لنسخ المصنفات، وكان يتولى الإشراف عليه حفظة مهمتهم السهر على حراسة ما يحتويه من كتب، وتزويد الباحثين والمترددين عليه من طلاب العلم بما يلزمهم من هذه الكتب حسب تخصصاتهم، ويرأس هؤلاء الحفظة ناظر.

كان يعرف بصاحب بيت الحكمة، وأول من تولى هذا المنصب عالم الرياضيات أبو اليسر إبراهيم بن محمد الشيباني الكاتب المعروف بأبى اليسر الرياضي، وهو بغدادي النشأة، حيث أتيح له أن يلتقي بالعديد من المحدثين والفقهاء والأدباء واللغويين، وكان قد تنقل فى أقطار المشرق قبل أنتقاله إلى الأندلس وأخيرا استقر بالقيروان، وكان الأمير إبراهيم بن أحمد يعقد المجالس العلمية للمناظرة في بيت الحكمة، وكان يحضر هذه المجالس العلماء البارزون من فقهاء المالكية والحنفية، ولقد لعبت مدينة القيروان دورا رئيسيا في القرون الإسلامية الأولى، فكانت العاصمة السياسية للمغرب الإسلامى ومركز الثقل فيه منذ ابتداء الفتح إلى آخر دولة الأمويين بدمشق، وعندما تأسست الخلافة العباسية ببغداد رأت فيها عاصمة العباسيين خير مساند لها لما أصبح يهدد الدولة الناشئة من خطر الانقسام والتفكك، ومع ظهور عدة دول مناوئة للعاصمة العباسية فى المغرب الإسلامى فقد نشأت دولة الأمويين بالأندلس، ونشأت الدولة الرستمية فى الجزائر.

ونشأت الدولة الإدريسية العلوية فى المغرب الأقصى، وكانت كل دولة من تلك الدول تحمل عداوة لبنى العباس خاصة الدولة الإدريسية الشيعية التي تعتبرها بغداد أكبر خطر يهددها، لهذا كله رأى هارون الرشيد أن يتخذ سدا منيعا يحول دون تسرب الخطر الشيعى، ولم يرى إلا عاصمة إفريقية قادرة على ذلك، فأعطى لإبراهيم بن الأغلب الاستقلال فى النفوذ وتسلسل الإمارة في نسله، وقامت دولة الأغالبة كوحدة مستقلة ومدافعة عن الخلافة، وقد كانت دولة الأغالبة هذا الدرع المنيع أيام استقرارها، ونجحت في ضم صقلية إلى ملكها وقام أمراؤها الأوائل بأعمال بنائية ضخمة فى القيروان ذاتها ومنها توسيع الجامع فى القيروان، وتوسيع الجامع فى تونس، كما عمل الأغالبة على الاهتمام بالزراعة والرى فى المنطقة، وأقاموا الفسقية المشهورة، وقد استغل الأمراء الأغالبة تلك المكانة واتخذوها سلاحا يهددون به عاصمة بغداد فكلما هم خليفة من خلفائها بالتقليل من شأن الأمراء الأغالبة أو انتقاص سيادتهم.

وهذا ما فعله زيادة الله بن الأغلب مع الخليفة المأمون العباسى، فقد أراد هذا الأخير إلحاق القيراون بولاية مصر، وطلب من زيادة الله أن يدعو لعبد الله بن طاهر بن الحسين والي المأمون على مصر فأدخل زيادة الله رسول المأمون إليه، وقال له إن الخليفة يأمرنى بالدعاء لعبد خزاعة، وهذا لا يكون أبدا ثم مد يده إلى كيس بجنبه فيه ألف دينار ودفعه للرسول، وكان فى الكيس دنانير مضروبة باسم الأدارسة في المغرب، ففهم المأمون مقصد الأمير الأغلبى فكف عن محاولته ولم يعد إليها، وبسبب هذه المكانة فقد عمل على التقرب منها أكبر ملك في أوروبا إذ بعث الإمبراطور شارلمان بسفرائه إلى إبراهيم بن الأغلب فقابلهم في دار الإمارة بالعباسية في أبهة عجيبة بالرغم من الصلات الودية التي كانت بين هذا الإمبراطور والخليفة العباسى هارون الرشيد، ويعد مسجد القيروان الذى بناه عقبة بن نافع عند إنشاء المدينة من أهم معالمها عبر التاريخ، ولقد بدأ المسجد صغير المساحة، بسيط البناء، ولكن لم يمض على بنائه عشرون عاما.

حتى هدمه حسان بن نعمان الغسانى وأقام مكانه مسجدا جديدا أكبر من الأول، وفى عهد الخليفة هشام بن عبد الملك أمر بزيادة مساحته، وأضاف إليه حديقة كبيرة فى شماله، وجعل له صهريجا للمياه، وشيد مآذنه، وفي عام مائة وخمس وخمسون من الهجرة أعيد بناؤه على يد يزيد بن حاتم، وظل على حاله هذه إلى أن تولى زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب إمارة إفريقية عاممائتان وواحد فزاد فيه، ولقد سارت التوسعات في العصور المختلفة حتى أصبح يشغل اليوم مساحة مستطيلة تتراوح أضلاعها ما بين سبعين إلى مائتان واثنين وعشرين مترا، ويعتبر جامع القيروان من أقدم مساجد المغرب الإسلامى والمصدر الأول الذى اقتبست منه العمارة المغربية والأندلسية عناصرها الزخرفية والمعمارية، وكما كان هذا المسجد ميدانا للحلقات الدينية والعلمية واللغوية التى ضمت نخبة من أكبر علماء ذلك العصر، ولقد شرع عقبة بن نافع في بناء القيروان في سنة خمسين للهجرة، وابتدأ بتخطيط دار الإمارة، ثم عمد إلى موضع المسجد الأعظم فاختطه.

ولكنه لم يحدث فيه بناء، ويذكر ابن عذارى المراكشى أنه كان يصلى فى موضع هذا الجامع قبل أن يقوم ببنائه، فاختلف الناس عليه في القبلة، وقالوا إن جميع أهل المغرب يضعون قبلتهم على قبلة هذا المسجد، فأجهد نفسك في تقويمها فأقاموا أياما ينظرون إلى مطالع الشتاء والصيف من النجوم ومشارق الشمس، فلما رأى أمرهم قد اختلف، بات مغموما، فدعا الله عز وجل أن يفرج عنه، فأتاه آت فى منامه، فقال له إذا أصبحت فخذ هذا اللواء في يدك، واجعله على عنقك، فإنك تسمع بين يديك تكبيرا لا يسمعه أحد من المسلمين غيرك فانظر الموضع الذى ينقطع عنك فيه التكبير، فهو قبلتك ومحرابك، وقد رضى الله لك أمر هذا العسكر وهذا المسجد وهذه المدينة، وسوف يعز الله بها دينه، ويذل بها من كفر به، فاستيقظ من منامه، وهو جزع، فتوضأ للصلاة، وأخذ يصلى وهو فى المسجد ومعه أشراف الناس، فلما انفجر الصبح، وصلى ركعتى الصبح بالمسلمين، وإذا بالتكبير بين يديه، فقال لمن حوله أتسمعون ما أسمع؟ فقالوا لا.

فعلم أن الأمر من عند الله تعالى، فأخذ اللواء فوضعه على عنقه، وأقبل يتبع التكبير حتى وصل إلى موضع المحراب فانقطع التكبير، فركز لواءه وقال هذا محرابكم، فاقتدى به سائر مساجد المدينة، ومنذ ذلك العهد أصبحت قبلة جامع القيروان موضع إجلال الناس وتعظيمهم، فلم يتعرض لها أحد الأمراء بسوء في الزيادات المتتالية التى أجريت بالجامع عامة وببيت الصلاة خاصة، ولم يتغير موضع القبلة حتى يومنا هذا لشرف انتمائها إلى التابعى عقبة بن نافع الذى أورث اسمه الجامع، فصار يعرف بجامع سيدى عقبة، ولم يكن هذا المسجد أول الأمر إلا مساحة مسورة بسور سميك من اللبِن على هيئة حصن، وليست لدينا فكرة عن بيت صلاته، فهو يماثل المساجد الأولى فقد كان بسيط البناء، صغير المساحة، ويغلب الظن أن أسقفه كانت تقوم مباشرة على الأعمدة دون أن تحملها عقود، ولم تلبث المدينة أن عمرت بعد تخطيط الجامع بالدور ومختلف الأبنية والمساجد، وشد الناس إليها الرحال، وعظم قدرها.

قد يعجبك ايضا
تعليقات