القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

نبذة عن طالوت وجالوت “الجزء الثالث “

106

إعداد / محمـــد الدكـــرورى

ونكمل الجزء الثالث مع قصة طالوت وجالوت، ويقول الله تعالى في كتابه العزيز كما جاء فى سورة الأعراف ” فاقصص القصص لعلهم يتفكرون” فإن الهدف والمقصود من القصص القرآني الكريم، هو التفكر والاعتبا ، واستخلاص الدروس والعبر، والاستفادة من نجاحات الآخرين أو اخفاقاتهم، فقد كان آخر نبي ملك حكم بني إسرائيل هو نبى الله يوشع بن نون عليه السلام، ثم من بعده انفصل الحكم عن الدين، فكانت الملوك تسوس بني إسرائيل، وكانت الأنبياء تهديهم، وترتب على ذلك أن زاد طغيان بني إسرائيل، فكانوا يقتلون الأنبياء، نبيا تلو نبي، ولذلك فقد عاقبهم الله تعالى فسلط عليهم ملوكا وحكاما ظلمة وجبارين، أذاقوهم سوء العذاب، وطغوا عليهم، وسرقوا منهم مقدساتهم، ومن بينها تابوت العهد، وهو التابوت الذي فيه الألواح المقدسة، وكان في هذا التابوت بقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وكان بنو إسرائيل يأخذون التابوت معهم في معاركهم لتحل عليهم السكينة ويحققوا النصر، وكان من بين هؤلاء الطغاة الظلمة هو جالوت، فقد قام بالاستيلاء على أراضي بني إسرائيل عنوة، وقتل أبناءهم ونساءهم، وشردهم من أرضهم، وفي هذه الفترة أرسل الله نبيا لبني إسرائيل يعظهم ويعلمهم دينهم، وبعدما استولى جالوت على أرضهم ذهب بنو إسرائيل للنبي وقالوا له إننا مظلومون، ومشردون، فرد عليهم قائلا نعم أنتم كذلك، فقالوا له لماذا لا نقاتل في سبيل الله تحت راية ملك واحد ونسترجع أراضينا؟ وإن القضية هنا هي قضية الموت، وهل يمنع حذر من قَدر؟ وهل الفرار من الجهاد سيجنبه الموت؟

وهل الذي يهرب من الجهاد خوفا من القتل وحرصا على الحياة يتحقق له ما أراد؟ يقول القرطبي في تفسيره لهذه الآية قال ابن عطية “وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم إخبارا عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فرارا من الموت فأماتهم الله ثم أحياهم، ليرى كل من خلف من بعدهم أن الإماتة هي بيد الله تعالى لا بيد غيره، فلا معنى لخوف خائف، ولا لاغترار مغتر، وجعل الله تعالى هذه الآية مقدمة بين يدي أمر المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجهاد، وهو ظاهر وصف الآية، وإن هذا خطاب لأمة النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بالقتال في سبيل الله في قول الجمهور، وهو الذي يُنوى به أن تكون كلمة الله هي العليا، وسبل الله كثيرة، فهي عامة في كل سبيل، وما من سبيل إلا يُقاتل عليها أو فيها أو لها، وأعظمها دين الإسلام، وقيل هو أمر من الله تعالى للمؤمنين ألا تهربوا كما هرب هؤلاء، ومن الدروس المستفاده أن من حكمة الله تعالى تمييز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، والصابر من الجبان، وأنه لم يكن ليذر العباد على ما هم عليه من الاختلاط وعدم التمييز، ومنها أن من رحمته وسننه الجارية أن يدفع ضرر الكفار والمنافقين بالمؤمنين المقاتلين، وأنه لولا ذلك لفسدت الأرض باستيلاء الكفر وشعائره عليها، أما عن العصبة التي كانت مع طالوت فهي أن الله عز وجل هو الذي اختاره وكفى بها عصبة، لكن في زماننا هذا لا يوجد وحي من الله تعالى، وأن الله اختار فلانا، فلا بد من عصبة يقوم بها الملك.

والمقصود أن نبيهم أخبرهم إن الله قد بعث لهم طالوت ملكا، وأخبرهم بذلك حتى يلين قلوبهم لأمر الله وطاعته، وآتاه بسطة في العلم والجسم، أي علم عام بالشرع، وعلم بالحروب، وكانت الحروب آنذاك تعتمد اعتمادا كليا على القوة الجسمية، وبعد أخذ وعطاء أذعنوا، وذلك بعد أن أخبرهم نبيهم أن ثمة آيات أعطاها الله عز وجل لطالوت، وكانت التابوت والسكينة وقد تحدث العلماء عنها من جوانب عديدة، لكن لا يوجد شيء يعتمد عليه ممكن أن ينقل، وكلها أقاويل منقولة عن مسلمة أهل الكتاب، ولا يدرى صحيحها من سقيمها أو قويها من ضعيفها، لكن نقول جملة إن الله عز وجل أعطى طالوت قرائن لا يستطيع معها بنو إسرائيل أن يردوا ملكه منها تابوت ينصرون به، وهيئة هذا التابوت لا نعلمها، أما السكينة فقد تكون بمعناها العربي المعروف وهي الطمأنينة، وقد يكون غير ذلك، كما قيل إنها ريح، وقيل إنها طائر، وقيل غير ذلك، وأما عن بقية آل موسى وآل هارون، فقيل عصا موسى وعصا هارون ورضاض من الألواح التي كتبت فيها التوراة لنبى الله موسى عليه السلام، وهذا محتمل، لكن لا يوجد جزم به، وقد أخذ طالوت الجيش يعبر بهم نهر الأردن لمقابلة العمالقة الذين يقودهم جالوت، فالدنيا قائمة على الامتحان وكلما ابتلى الله الإنسان بشيء وفاز فيه يبتليه بشيء آخر، وهذه سنة الله عز وجل في خلقه، وقيل أنه كان جيش طالوت ثمانين ألف محارب، وقد ذهب ليحارب بهم، فمر على نهر وقال لهم لا تشربوا منه إلا من أغترف غرفة بيده يبل بها ظمأه، فقسمهم ثلاثة أصناف، قوم سيشربون.

وقوم لن يشربوا أبدا، وقوم يذوقون وقيل أنه لأن يطعم تأتي في اللغة بمعنى يذوق، فالذين لم يشربوا بالكلية قطعا سيكونون في الجيش، والذين سيغرفون غرفة باليد ممكن أن يقبلوا، وأما الذين شربوا من النهر واغترفوا غرفا كثيرا فهؤلاء لا مكان لهم في جند طالوت، وهذه تقاس على الدنيا، فالدنيا مثل النهر الذي اعترض بني إسرائيل، فمن شرب منه بالكلية لا مكان له في الآخرة، ومن أخذ شيئا بالمقدار الذي يبلغه إلى الله تعالى سيصل للآخرة، ومن لم يشرب منه أبدا سيصل، لكن الأوسط أفضل، لأنه هدي الأنبياء، فقد سار بنو إسرائيل بعد موسى عليه السلام على طريق الاستقامة مدة من الزمان، ثم أحدثوا الأحداث وعبد بعضهم الأصنام، ولم يزل بين أظهرهم من الأنبياء من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، فسلط الله عليهم أعداءهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأسروا خلقا كثيرا وأخذوا منهم بلادا كثيرة، ولم يكن أحد يقاتلهم إلا غلبوه وذلك أنهم كان عندهم التوراة والتابوت الذي كان في قديم الزمان، فلم يزل بهم تماديهم على الضلال حتى استلبه منهم بعض الملوك في بعض الحروب وأخذ التوراة من أيديهم، فدعا بنو إسرائيل نبيهم فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكا يقاتلون معه أعداءهم، فقال لهم هل عسيتم إن أقام الله لكم ملكا ألا تفوا بما التزمتم به من القتال معه، قالوا وكيف لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا وأخذت منا البلاد وسبيت الأولاد؟ فعين لهم طالوت وكان رجلا من أجنادهم ولم يكن من بيت الملك فيهم، فلهذا قالوا كيف يكون ملكا علينا ونحن أحق بالملك منه، ثم هو مع هذا فقير لا مال له.

فأجابهم قائلا إن الله اختاره لكم من بينكم والله أعلم به منكم، وهو مع هذا أعلم منكم، وأنبل وأشكل منكم وأشد قوة وصبرا في الحرب ومعرفة بها، وقال لهم إن علامة بركة مُلك طالوت عليكم أن يرد الله عليكم التابوت الذي كان أخذ منكم، وقال ابن عباس رضى الله عنهما “جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدي طالوت، والناس ينظرون” في هذه القصة من الآيات والعبر ما يتذكر به أولو الألباب، فمنها أن اجتماع أهل الكلمة والحل والعقد وبحثهم في الطريق الذي تستقيم به أمورهم وفهمه، ثم العمل به، أكبر سبب لارتقائهم وحصول مقصودهم، كما وقع لهؤلاء الملأ حين راجعوا نبيهم في تعيين ملك تجتمع به كلمتهم ويلم متفرقهم، وتحصل له الطاعة منهم، ومنها أن الحق كلما عورض وأُوردت عليه الشبه ازداد وضوحا وتميزَ وحصل به اليقين التام كما جرى لهؤلاء لما اعترضوا على استحقاق طالوت للملك أجيبوا بأجوبة حصل بها الإقناع وزوال الشبه والريب، ومنها أن العلم والرأي مع القوة المنفذة بهما كمال الولايات، وبفقدهما أو فقد أحدهما نقصانها وضررها، ومنها أن الاتكال على النفس سبب الفشل والخذلان، وكان نتيجة ذلك أنه لما كتب عليهم القتال تولوا، أما الاستعانة بالله والصبر والالتجاء إليه فهي سبب النصر، كما كان حال القلة المؤمنة الثابتة، قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، فهزموهم بإذن الله، ومنها أن من حكمة الله تعالى تمييز الخبيث من الطيب، والصادقِ من الكاذب، والصابر من الجبان.

وأنه لم يكن ليذر العباد على ما هم عليه من اختلاط الكاذبين بين الصادقين وعدم التمييز، ومنها أن من رحمة الله وسننه الجارية أن يدفع ضرر الكفار والمنافقين بالمؤمنين المقاتلين، وأنه لولا ذلك لفسدت الأرض باستيلاء الكافرين عليها وإفسادهم فيها، فإن أصحاب طالوت صبروا واجتازوا امتحانات قاسية ومروا بابتلاءات متوالية، حتى كانت اللحظة الحاسمة، وتحقق اللقاء، وعند المواجهة توجهوا إلى الله تعالى بالدعاء، وهنا فقط يأتي الله تعالى بالنصر، ذلك لأن الله تعالى هو الذي يملك أسباب النصر من ملائكة وغيرها، فهل تنزل الملائكة على النائمين القاعدين المتنسكين في المحاريب، والمنقطعين للذكر وحلقات الدرس وحفظ القرآن؟ ففي قصة طالوت، كانت نهاية جالوت الكافر المعاند على يد داود، وكان غلاما صغير السن، وقد قتله بالمقلاع، وفي غزوة بدر كانت نهاية أبي جهل رأس الكفر والعناد وهلاكه على يد غلامين صغيرين، وقد روى ابن هشام في السيرة، قال معاذ بن عمرو بن الجموح سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة، أى الشجر الملتف، وهم يقولون أبو الحكم لا يُخلص إليه، فلما سمعتها جعلته من شأني، فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه، فضربته ضربة أطنت قدمه أى أطارتها بنصف ساقه، فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها، قال وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي، فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني أى غلبني القتال عنه، فلقد قاتلت عامة يومي، وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمى.

ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها، وقال ابن إسحاق ثم عاش بعد ذلك حتى كان زمن عثمان، ومن هنا يتبين مدى تأثير قصة طالوت في نفوس المسلمين حينما قص عليهم القرآن قصةَ فئة مؤمنة مرت بها ظروف وأحداث كالتي يمرون بها، ثم كان عاقبتها النصر والغلبة، والدروس المستفادة كثيرة، والعبر ناطقة، ولقرب نزولها من أحداث غزوة بدر ومقدماتها كان لها أيما وقع وتثبيت لقلوب المؤمنين، والأمل في النصر، وكان ذلك بمثابة تهيئة وتعبئة نفسية ومعنوية قبيل بدر، وهكذا كان ذكر قصص الأمم السابقة فقد ذكر القرآن الكريم العديد من القصص التي تعين المسلم على التفكر في قدرة الله تعالى على تغيير أحوال البشر من عزة إلى ذلة، ومن ذلة إلى عزة، كما توضح القصص سبب تقدم الأمم وتراجعها، والسبب الأساسي في ذلك هو تقوى الله تعالى والاستعانة به في السراء والضراء، ومن قصص الأمم التي ذكرها القرآن الكريم، قصة قوم لوط وقوم ثمود وقوم عاد وقوم فرعون وبني اسرائيل، وإن بنو إسرائيل، هم أولاد إسرائيل وهو النبي يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام، وذريته هم بنو إسرائيل الذين عاصروا الكثير من الأنبياء والرسل الكرام، وفي تكرار ذكر قصصهم في القرآن الكريم حِكَم عظيمة، فقد فضلهم الله تعالى على العالمين، فلما فرطوا في آتاهم ضُربت عليهم الذلة والمسكنة وغضب الله عليهم، وجعل منهم القردة والخنازير، وفي ذلك عبرة للأمم بأن الله تعالى لا يفضل أمة عن غيرها بسبب النسب، بل إن ميزان الفضل عند الله هو اتباعه واتباع أنبياءه عليهم السلام.

قد يعجبك ايضا
تعليقات