شخبطة رمادية

بقلم/سالي جبر

‏” ليت ذلك الحلم يتحول بريشة فنان إلى كتلة ألوان باسمة تضيء الحياة، كراقصة بالية تعزف على أوتار قلبها، وتتراقص على أطراف أصابعها، ترسم الحلم كصخرة جلمود لا يبكيها أنين الذكريات، كأشعة فضية منثورة على شاطيء البحر، كأعذب الأغنيات…ليت وياليت”

تلك الكلمات تعبر عما بداخلي؛ حينما قرأت رواية رأيتها تتراقص أمام عيني وكأنني أود أن أرسمها، أردت أن أحول الكلمات إلى ألوان، أن أعبر قلب القاريء برسمة تحمل النشوة على شفتيه، وعبير الزهور إلى صدره، تزيح زحام الدخان من عينيه؛ فيرى الكلمات ببساطة الألوان، حاولت لكنني لم أحمل ذات يوم ريشة وأقلام إلا للشخبطة، فعندما كنت صغيرة كانت أمي تضع لنا أوراقا بيضاء على الحائط كي نخطط بالأقلام ولا نضيع بهاء الحائط الأخضر الفاتح ذات الورود الجذلة الوردية، كنت أكتنز كل يوم جزءًا من مصروفي اليومي وأبتاع به أقلامًا وألوانًا، أذاكر طوال الأسبوع لأحتفل مع ألواني بيوم الجمعة، أبدأ اليوم وأختتمه وأنا أعبث بالألوان، تعلمت أن الأوان درجات، واللون الواحد نستخرج منه العديد من، ساعدتني أمي على مزج الألوان، وكنا نعيش ونحلم ونمرح ونتعلم، اليوم لا أملك من ألواني إلا الرمادي.
اللون المحايد، لا هو أبيض بسيط مريح للعين، يمحي الأخطاء بسهولة ويجدد خلايا روحك مع تجديد نقاءه، ولا هو أسود قاتم، غارق في ظلام الليل وعناءه، هو لون يقف بنا على أعتاب الحياة، لون كالعلاقات سريعة البداية سريعة النهايات، لون يتركك في حيرة؛ بين سعة الحب وضيق القلوب، بين دوام الضحكة ورتوش الحزن…
اليوم وقد كبرت أعوامًا مازلت أحمل ألواني كاملة ولا أستطيع العبث معها لكني أستخدم منها اللون المحايد وقرينه الأسود، ليدل حيرته على الطريق الصواب، وخطر بذهني سؤال: ما شكل تلك الحياة إن كانت أبيض وأسود فقط؟
هل نسامح دون أن نفكر، أم نبرر الخطأ والذنب، أم نقتل الخاطيء بسيف الكلمات الغامد في نصل العُرف؟!

كانت تقف هناك بائعة ورود، تحمل الباقة في يدها تتحسسها، تشم رائحتها، تزيدها جمالًا بتنسيق ألوانها وأحجامها، اقتربت منها وسألتها عن اللون الأسود في الأزهار، غابت عن نظري برهة ثم عادت بزهرة توليب سوداء رائعة الجمال، وهناك أخرى بيضاء تقف في شموخ على سيقان خضراء تنشر عطرها الآسيوي، فيزيل غمامة الحزن عني… هل هناك ورود رمادية؟! سألتها بنبرة تستعجلها الكلام، بعد نظرة طويلة منها، نظرة متعجبة قالت: يوجد ولكن ليس عندي، هي ورود رمادية زرقاء تسمى هيدرنجا، رائعة في تنسيق الفازات تحمل اللون الرصاصي غاية في الجمال، لكن لماذا الأسود والرصاصي؟!
أغمضت عيني قليلًا وبدموع تتلألأ أجبتها بأن اللون الرمادي هو المتحكم في كل شيء، هو السائد المالك، الحاضر الغائب، فقالت: ومع أي لون من الزهور تحبين؟ ثم بدأت ترسم تلك الزهرة مع زهرة كاميليا زرقاء، قليل من زهور القرنفل، فوجدته مزيجًا رائعًا أعادني أدراجي الأولى بين أقلامي وشخبطة الحائط وروايتي المرسومة في خاطري، فطلبت منها أن ترسم، راقصة باليه باكية وبجانبها تلك الباقة والدماء تتقطر من يديها..
كنت أحكي وهي ترسم، اللوحة البيضاء تحولت إلى لون محايد يتخلله اللون الأحمر الداكن وكأنه يصرخ يطالب بلون آخر، حملت في يدها أزرق لتغير لون اللوحة لكني رأيت اللون أفضل، وعندما سألتني ولماذا أضفتي الأحمر؟ أجبتها ببسمة وتركت لها ثمن الورود واللوحة الصغيرة.

وبالبيت على هامش غرفتي مكتب رمادي صغير وضعت عليه الزهور الرمادية والسوداء، وفوقه اللوحة الهادئة الصارخة، وأغمضت عيني ودعوت خالقي أن أحلم بيوم من أيام الشخبطة.

شخبطة رمادية
Comments (0)
Add Comment