رسالة في رفع الحرج عن ضعاف الكتابة

بقلم -محمود أمين

هذه رسالة كتبتها على عجالة من أمري نزولا على رغبة أحد الأصدقاء يسألني طريقا يسلكه؛ لإتقان الكتابة وتجويد اللغة لديه، فكم من كاتب تشتكي الكلمات منه بعد أن استعملها، وتدعو الله لو كانت في جملة يستقيم معناها كما يستقيم استخدامها، وقد نردُّ هذه لسببين: ضعف اللغة واستهتار الكاتب بتعلمها، فلم يجهد نفسه يوما في تعلم العربية ومن دونها لا تستقيم الكتابة فهي كالشجرة واقفة دون كساء الخضرة والثمر، هذا إن أتقن الشاعرية الكتابية على أصولها، فإذا أردت أن تكتب العربية الفصحى فعليك بتعلم العربية –لا أقول كما كان يكتب امرؤ القيس- تعلما يفيد الغاية من الكتابة، وعلوم العربية كالإيمان يزيد وينقص، فاستجمع ما تقدر عليه من تلك العلوم تكن لك فائدة وأساس تُقيم عليه كتاباتك وأدبك فيما بعد، ولكن إن استثقلت هذا التعلم عليك فاختر لنفسك لغة أخرى، ومن الأسباب التي تُقنع صاحب المروءة من تعلم العربية، أننا نستطيع قراءة رسائل الجاحظ وأشعار المتنبي دون وسيط إلا القيل من بعض الكلمات الغامضة لعدم سماعنا إياها أو لقلة استخدامها بين كتاب اليوم، والسبب الثاني هي الموهبة التي يتحلى بها الكاتب، فهو شعور يسيطر على صاحبه فتراه في حالة من السكون والتركيز كأنه يستدعي الكلمات من سراديب النفس، كالرسام يستفزه المنظر الجميل فيصوره على ألواحه، وهذا السبب –الموهبة- صعب استجلابه، وقد يأتي لأناس أقوياء تمرسوا اللغة؛ كالنظَّام ينظم الشعر وشعوره بارد، فلا تأخذ من كلامه إلا أبياتا باهتة الروح بسيطة المعنى.
وعلى ما تقدم أبسط الكلام، وأدعو الله ألا يصيبك سآمة أو ضجر، فإذا رأيت من نفسك كسلا فاتركها وعد إليها فيما بعد.
اللغة العربية كأي لغة في هذه الدنيا اجتمع حي من الناس فنطقوا بها، وكانت في أساسها لغة منقولة من جيل إلى جيل، ولم تَعرف اللغة العربية التدوين الرسمي إلا في عهد سيدنا عمر بين عبد العزيز -إني لأعتمد على الذاكرة مما درست في دار العلوم، وقد مر على دراستي السنون، فلو وجدتَ تأريخا للتدوين يخالف ما أقول فارسل لي ولك جميل الشكر- وتعرفُ أن سيدنا عمر أمر بتدوين أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أول ما أمر، وكان هذا بعد تدوين القرآن بما يقارب خمسين سنة، وتوالى التدوين والتأليف بعد هذه الفترة فكان كل هذا تعزيزا وترسيخا للغة في الكتب وحفظا لها من الضياع، وإذا أردت الاستزادة من خبر تدوين اللغة وآدابها فعليك بكتاب «تاريخ آداب العرب للرافعي».
وبعد أن تذوقت حلاوة العربية وأسباب وجودها في كتاب الرافعي، أنتقل بك لإتقان علم النحو، فكم من معسِّر لهذا الباب وهو يسير فلا تلتفت لمقالة فلان وفلان، والنحو علم من العلوم فهل رأيت رجلا أتقن جدول الضرب في الرياضيات إلا بعد حفظ؟ لا أقول لك احفظ النحو، ولكن اجعله صديقا تقرأه قراءة الطالب المحب وتعوده عيادة المريض، فاختر لنفسك يا صديقي كتابا رشيقا يحبب إليك النحو، ولو سألتني ما بالك لا تقول اسما لأي كتاب أقول لك كثر التأليف والتشابه بين كتاب وآخر، ولكن أفضل «ملخص قواعد اللغة العربية لفؤاد نعمة».
وبعد أن هضمت النحو وشربت عليه الماء -سقاك الله من أنهار الجنة- أنصحك بالقراء به، كيف يكون هذا؟ يكون على نحو الإعراب، ولكن دع عملية الإعراب تدور في رأسك، فتربط بين القراءة والاستزادة وملكة الإعراب، وكن هادئا مطمئنا حتى لا يلتبس عليك المعنى والإعراب، فاقرأ مثلا: هَذَا رَجُلٌ صَالِحٌ، بتطبيق النحو على آخر الكلمات، ولا تترك السطر إلا بعد أن وعيْتَه وأعربته إعرابا صحيحا.
ومن النحو إلى الصرف؛ وفائدة الصرف لا تقل عن النحو، فإذا كان النحو يهتم بآخر الكلمة يهتم الصرف ببنية الكلمة، دون الصرف سيكون من الصعب عليك معرفة اللازم والمتعدي من الأفعال، وأصل الواو والياء والألف عند رد الكلمة لأصلها، وأبواب الأفعال وضبط الكلمة بالكامل؛ فهل نقول ضَرَبَ – يَضْرَبُ أم ضَرَبَ – يَضْرِبُ؟ والإجابة على هذا السؤال هو وظيفة علم الصرف، فاغنم كتاب «شذى العرف في فن الصرف» فهو عمدة هذا الباب وأسأل الله لك اليسر والتسهيل.
«بإحدى الكنائس في إنجلترا نافذة أبدعتها يدُ صَنَّاع، فجاءت آيةً من آيات الفن الرائع تحفة للزائرين؛ اتَّسقت ألوانها، وأُتقِنت تصاويرها، وبلغت في كل شيء حد الكمال؛ ويقُص عليك الدليل أنه لما بُنيت الكنيسة جيء لزخرفتها بفنَّان طبقت شهرته الخافقَين في الفن الجميل، واستصحب الأستاذ صبيًّا كان يُلازِمه ليتلقَّى عنه أصول الفن، وأخذ الأستاذ الفنَّان في زخرفة النوافذ، ورُصَّت أمامَه ألواح الزجاج ألوانها شتَّى، يَجذ من هذا مرة ومن ذلك مرة، ويُرشِد الغلام إلى قواعد الفن في صناعته كلما وضع في النافذة قطعة من زجاج؛ فهنا مُربَّع أزرق وإلى جانبه حلقة حمراء، وصورة القديس هنا، وهنا صورة العذراء. وكان الأستاذ خلال ذلك يقذف بقُصاصات الزجاج غير مُبالٍ بها، فينثرها يمينًا ويسارًا، والغلام من ورائه يجمع هذه القُصاصات ليُلقي بها حيث تُؤتمن العواقب.
لكن الغلام فنَّان موهوب، فلم يُلقِ بقُصاصات الزجاج حيث تُلقى سائر الفضلات؛ بل أخذ يلهو بها في سُوَيعات فراغه حتى كانت له في النهاية نافذة رائعة بارعة هي التي يقِف عندها الزائرون اليوم ليقُص عليهم الدليل قصتها، ويحكي أنه لما فرغ الصبي من نافذته أطلع عليها أستاذه: ما هذا الذي أرى؟
– نافذة صنعتها.
– وأنَّى لك الزجاج؟
– قُصاصات جمعتها.
ورأى الأستاذ في نافذة الغلام فنًّا لا يُقاس إليه فنه، وكبُر عليه الأمر فانتحر. «
أسوق لك يا عزيزي هذه القصة لما فيها من أدب سامٍ تشتاق لقراءتها العقول، فقد يجتمع لك من قصاصات المعرفة والدربة ما اجتمع للصبي الفنان من قصاصات الزجاج.
ومن بعد النحو والصرف تأتي الكتابة متجسدة في فن الإملاء وعلامات الترقيم، أظن بعد قراءتك في فنون العربية تجد نفسك مثقلة بالعظمة والفخر لما لهذه اللغة من تنسيق ومنطق بين قواعدها، وإتقان الإملاء يحفظ للمعنى مقصده، والاهتمام بالترقيم يحفظ للسطر مدلوله؛ فلوقلنا: ما أجملُ السماءِ؟ وقلنا: ما أجملَ السماءَ! فلو رفعنا الترقيم والتشكيل أو أسقطنا همزة أجمل فصارت: اجمل؛ لتحول المعنى واختلط على القارئ ما نريد من وراء ما نقول.
وإذا أغفلتُ علم البلاغة فإن مذهبي في اكتساب ملكة البيان في القراءة، فقد كان الرجل وقت انفتاح الخلافة الإسلامية يذهب إلى البادية ليثقف نفسه من ناحية اللغة ويشرب من معينها الصافي في أصلها، فأين لنا اليوم هذه البادية إلا في كتب القدامى وأقلامهم التي بمثابة الخيل تصول وتجول ولكن أنّا لها الصولان والجولان والكتب على أنفاسهم مغلقة، فاقرأ يا عزيزي للأقدمين وكبار الكتاب الحداثيين، وعندما أقول لك اقرأ للقدامى لا أثبِّتك وأغرسك في تربتهم كما تُغرس النبتة، فلا تستطيع الحركة ويكون منتوجك الأدبي على منوالهم، لا يا عزيزي خذ اللغة عنهم واقْفُل راجعا وعد راشدا؛ تجد الأزمنة الإسلامية فاجعل لنفسك شيوخا منهم؛ فاختر مثلا: امرئ القيس والنابغة من الشعراء للجاهليين، وعند وقوفك على أطلال امرئ القيس؛ حيّ الديار وسلم على أهلها، ولو عدت لرسالتي بعد كل مرحلة فستعلم أنك في هذه المرحلة ستحتاج إلى معجم للغة، فأدلك على «القاموس المحيط للفيروزآبادي»، ومرجع للمعاني أنصحك بـ«ديوان المعاني لأبي هلال العسكري»، ويا حبذا لو جعلت لنفسك وردا في هذه الكتب،
وبعد الجاهليين يأتي عصر المخضرمين فرئيس هذه المنطقة لبيد بن ربيعة والأحنف ابن قيس رضي الله عنهما؛ وأعتذر يا عزيزي عن الإطالة .
والعصر الأموي تجد الحسن البصري غفر الله له فاسمع لخطبه بسكون طائر وخفض جناح، والمجنون وجرير والفرزدق في أشعارهم، والعصر العباسي ستجد الكثير من الأدباء المفلقين، فاختر ما تشاء، ولكن حتى لا تقول تركني في حيرة، فإذا جئت عصر العباسيين فخذ من شعر أبي تمام والمتنبي، ومن نثره جالس الجاحظ وأطل في جلستك، وإذا استمتعت فاختم بابن المقفع، وابك مع ابن عباد على الأندلس المفقود، وتفقد حسن ولادة بنت المستكفي وحبيبها ابن زيدون.
لو أنك أتقنت قراءة أدب من نصحت لك بهم فأنت رافعي العصر أو عقاد الأدب أو شوقي الشعر، فما من واحد من هؤلاء إلا تزود من منبع ما ذكرت لك.
واجتهد يا عزيزي في الكتابة من أول يوم طرقت رجلك أرض الأدب، فاقرأ المقال واستقطع منه فقرة واطلب من نفسك تأليف ما استقطعت ثم اقرأ المقالة كاملة بإضافتك، وليكن منهج التذوق منهجك في القراءة، وإذا أردت المزيد عن هذا المنهج فاقرأ «رسالة في الطرق إلى ثقافتنا للشيخ محمود شاكر»، وأظنني أغفلت نصحك بعمل وِرد يومي للقرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وديوان شاعر من الشعراء.
هذا جهد المقل الفقر فاغفر الذلل وقوم الأود، والله من وراء ذلك شاهد علي، فأسأله النفع لكل قارئ همه حمل لواء العربية والفخر يوم الدين بما قدمت يداه.
#مقال

رسالة في رفع الحرج عن ضعاف الكتابة
Comments (0)
Add Comment