القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

أسرى الشهوات

99

كتب _ حمادة توفيق.
يقول النبي عليه السلام: (لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه)، ويقول: (بادروا بالأعمالِ فتنًا كقطع الليل المظلم)، ويقول: (يأتي على الناس زمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر).
وأنا على يقين أننا نعيش زمن الشر والفتن هذه السنوات، فزماننا لا يختلف في شره اثنان ولا ينتطح عنزان، فالأمانة قد ضاعت، والفساد انتشر واستشرى، والصلاة حل محلها لهو باطل، والرحمة انتزعت من القلوب فلا يرحم كبير صغيرًا ولا يوقر صغير كبيرًا، ولا أرى الساعة إلا قد هلت بوادرها، توشك أن تُقرَعَ عصاها فيؤذن لها، نسأل الله السلامة.
وأنا اليوم سأتوغل معكم معاشر القراء في موضوع الشهوات منبهًا للغافل موقظًا للنائم الذي يغط في سُباته العميق، وعسى الله أن ينفع بمقالي هذا أحدًا من الأمة فأجد ذلك في ميزان حسناتي يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
إن أشد ما قال نبينا صلى الله عليه وسلم في الشهوات: (… وحُفَّت النار بالشهوات) رواه مسلم، والمعنى: أنه وُضِع على حافة النار حجاب من الشهوات، من اخترق هذا الحجاب دخلها، فمن جاهد نفسه على الامتناع عن الشهوات التي حُفت بها النار، أحب الطاعة وأَلِفها وكَرِه المعصية، وأَنِفَ منها، فيصير التعبد يسيرًا عليه.
والشهوات: هي ما تميل إليه النفس من غير تعقُّل ولا تبصُّر، ولا مراعاة لدين ولا مُروءة.
أمثلة ذلك: النظر إلى الحرام، تميل إليه النفس من غير تعقُّل ولا تبصُّر، ولا مراعاة لدين ولا مُروءة، فهذه شهوة على حافة جهنم، مَن اخترقها دخل جهنم، ولو تعقَّل الإنسان وتبصَّر، وراعى الدين والمروءة، لجاهد نفسه في الامتناع من ذلك، وقُلْ مثل ذلك في شهوة الزنا وشهوة حب الصدارة والزعامة، وشهوة حب المال، وشهوة الغش وسائر الشهوات.
والسؤال الذي قد يطرأ على ذهن أحدنا: لماذا خلق الله الشهوة؟ وكيف نتعامل معها؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “إن الله خلق فينا الشهوات واللذات؛ لنستعين بها على كمال مصالحنا، فخلق فينا شهوة الأكل واللذة به، فإن ذلك في نفسِه نعمة، وبه يحصل بقاء جسومنا في الدنيا، وكذلك شهوة النكاح واللذة به، هو في نفسه نعمة، وبه يحصل بقاء النسل، فإذا استُعين بهذه القوى على ما أمرنا، كان ذلك سعادةً لنا في الدنيا والآخرة، وكنا من الذين أنعم الله عليهم نعمة مطلقة، وإن استعملنا الشهوات فيما حرَّمه علينا – بأكل الخبائث في نفسها، أو كسبها بالمظالم، أو بالإسراف فيها، أو تعدَّينا أزواجنا، أو ما ملَكت أيمانُنا – كنا ظالمين معتدين، غير شاكرين لنعمته…”.
إذًا ليست الشهوات كلها مذمومة، ولكن منها ما هو محمود وبحسب الاستعمال، كذلك يبتلي الله تعالى عباده بالشهوات؛ ليَميز المطيع من العاصي، والخبيث من الطيب؛ لأن الإنسان إنما ينجرف في الشهوات بسبب ضَعف إيمانه ورفقته السيئة، وفراغه القاتل، وقربه من مثيرات الشهوة، وهذه كلها مناطات امتحان.
فكيف يجاهد الإنسان نفسه على ترك الشهوات إذن؟
1- قل: معاذ الله، إني أخاف الله:
“معاذ الله”: قالها يوسف حين راودته امرأة العزيز، وعرضت له جسدها على فراش من حرير، وكان شابًّا عبدًا عزبًا، فنجاه الله منها، وصرف عنه كيدها.
“إني أخاف الله”: يقولها من يرغب في أن يُظَلَّ بظل عرش الرحمن يوم القيامة، يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل دعتْه امرأة ذات منصبٍ وجمال، فقال: إني أخاف الله”).
2- راقِبْ ربك وغُض بصرك:
قال تعالى: ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ [غافر: 19]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا ﴾ [الإسراء: 36]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [النور: 30].
3- الزواج أو الصيام:
كما قال صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب، مَن استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومَن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجاء)؛ أي: وقاية؛ (رواه البخاري).
وقد قال تعالى: ﴿ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [النور: 33].
4- لا تقترب من مثيرات الشهوة:
نحن في زمان قد مُلِئ بالفتن، وحسبك فتن النت والفيس بوك، وما يتبع ذلك من مثيرات وملهيات، ومُضيعات للأوقات، فِر حتى يَسلَم لك دينُك، كما فرَّ يوسف هاربًا حتى قَدَّتْ قميصَه من دُبر.
5- ونفسك إن لم تَشغلها بالحق شغلتك بالباطل.
6- الدعاء:
تأمَّل نبي الله يوسف عليه السلام حين قال: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [يوسف: 33، 34].
وقبل كل ذلك فعلى كل عاقل حصيف أن يجاهد نفسه آناء الليل وأطراف النهار فمجاهدة النفس من أكبر الوسائل المعينة على ترك الشهوات.
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بسنده عن فضالة بن عبيد، قال سمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (المجاهد: من جاهد نفسه)، وقال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما لمن سأله عن الجهاد: (ابدأ بنفسك فجاهدها، وابدأ بنفسك فاغزها.
فهذا الجهاد يحتاج أيضًا إلى صبر، فمن صبر على مجاهدة نفسه وهواه وشيطانه، غلبه وحصل له النصر والظفر، وملك نفسه، فصار عزيزًا ملكًا، ومن جزع ولم يصبر على مجاهدة ذلك، غلب وقهر وأسر، وصار عبدًا ذليلًا أسيرًا في يدي شيطانه وهواه، كما قيل:
إذا المرء لم يغلب هواه أقامه
بمنزلة فيها العزيز ذليلُ!
وقد عرَّف أهل اللغة المجاهدة بأنها: فطام النَّفس عن الشَّهوات، ونزع القلب عن الأماني والشَّهوات، وقال الجرجاني في كتابه التعريفات: “المجاهدة في اللغة: المحاربة، وفي الشرع: محاربة النفس الأمَّارة بالسوء بتحميلها ما يشقُّ عليها بما هو مطلوب في الشرع”.
وعرَّفَها أهل الاصطلاح بأنها: معالجة للنفس بتزكيتها، لتفضي إلى الفلاح.
لكن أي نفس تلك التي ينبغي مجاهدتها؟
إذا تأمَّلْنا أنواع النفوس، نرى بأن منها ما يدعو صاحبه إلى الطاعة، أو يلومه على تركها كما يلومه على فعل المعصية كما نرى في النفس المطمئنَّة واللوَّامة، وكذا النفس السويَّة والزكيَّة، فهما أيضًا لا يدعوان صاحبهما إلى رذيلة، ومع ذلك يجب المجاهدة من أجل الحفاظ على هذه الصفات؛ حتى لا تنحرف بسبب غفلة القلب، أو تقصير في الطاعات، وأما النفس الأمَّارة بالسوء، فهي صاحبة النصيب الأكبر من هذه المجاهدة حتى تصل إلى درجة من درجات النفوس السالفة الذكر.
ومجاهدة النفس على مراتب:
بيَّن الإمام ابن القيم رحمه الله أن لجهاد النفس مراتبَ ينبغي معرفتُها، فقال رحمه الله تعالى: جهاد النفس على أربع مراتب:
الأولى: مجاهدتها على تعلُّم الهدى ودين الحق.
الثانية: مجاهدتها على العمل به – أي: بالهدى ودين الحق – بعد علمه.
الثالثة: مجاهدتها على الدعوة إلى الحق.
الرابعة: مجاهدتها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمَّل ذلك كله لله.
ثم قال رحمه الله عقب ذلك: فإذا استكمل (المسلم) هذه المراتب الأربع، صار من الربَّانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يُسمَّى ربانيًّا حتى يعرف الحق، ويعمل به ويعلمه، فمن علِم وعمل وعلَّمَ فذاك يدعى عظيمًا في ملكوت السماوات.
ومن ثمار مجاهدة النفس:
(1) إخضاع النَّفْس والهوى لطاعة الله عزَّ وجلَّ
(2) إبعادها عن الشَّهوات وصد القلب عن التَّمنِّي والتَّشهِّي
(3) تعوُّد الصبر عند الشَّدائد على الطاعات وعن المعاصي.
(4) طريق قويم يوصِّل إلى رضوان الله تعالى والجنة.
(5) قمع للشيطان ووساوسه.
(6) نهي النَّفْس عن الهوى فيه خير الدنيا والآخرة.
(7) من جاهد نفسه وأدَّبَها سما بين أقرانه وفي مجتمعه.
(8) سوء الظن بالنَّفْس يعين على محاسبتها، وتأديبها.
(9) من يجاهد نفسه يمتلك ناصية الخير، ويصبح حسن الأخلاق.
(10) تحقُّق إنكار الذَّات وتصفي الجماعة من الأثرة الضارة بالجماعة والمجتمع.
وعلى الله التكلان.

قد يعجبك ايضا
تعليقات