القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

رسائلي إلى الصغيرة

217

بقلم محمود أمين

يا شقيقة الروح سلام عليك:
لقد خلق الله لكل روح أنيسها وجليسها وقرة عينها في هذه الحياة، قد تلتقي هذه الروح في الدنيا وقد يتأخر لقاؤهم إلى حياة الآخرة، وقد آنست بك وتم نقصي بوجودك والتفتُ إلى نفسي التي أعرفها ساعة من نهار فانشرحت لها وتقبلتها وأزهرت حياتي وأصبحت الأيام ريّانة كوجهك، ولطف بي القدر في كثير من المواقف التي كنت أقاسيها بدونك، وأنت اليوم بعيدة كل البعد كنجمة لمتأمل من الأرض في السماء.. أنت تجارة رابحة وأنا تاجر يجوب الأرض طلبًا لها.. أنت مرفأ هذا السفينة التي أرهقها السفر ولكن لا علم لربانها بمكانها.. أنت موطن وسكن ودفء مستطيل ولكني في غياهب الجب؛ فسلام عليك من نفسي حتى ألقاك يا عزيزتي.
لقد تناولتني الأيام من يد لأخرى كما تتناول الريح الورقة اليابسة على ظهرها، فلا تتركها ولا ينقضي انتقالها من أرض لأرض ، ولا يستقر حالها في بلد.. هائمة بين مروج وأراض ممهدة وأخرى قيعان وغيرها وعر وصعب.
ما ظنك بتلك الورقة؟ هل تقوى على هذه الرحلة؟ هل تحتفظ بهيئتها التي ذبلت عليها؟ هل تمد إرادتها إلى مساعد يساعدها؟
إن ظني بتلك الورقة وإن رفقت بها الريح وتلطفت عليها الأرض في كل اصطدام واحتكاك؛ أن تفقد هيئتها وتتحطم أجزاءً عند كل حركة، فما هو إلا أن يمر عليها الوقت فيتبقى منا ما لا تراه العين.
لقد أسرفت في وصفي وظني، ولكني أجاهد هذه الأيام كما يجاهد الجندي في منطقة حراسته؛ يترقب العدو من أي اتجاه، وقد استتر منها بكل ما يساعده على الغلبة ولكن ثمة فكرة عنده أنه مغلوب، لأن العدو قد يكون سِنة من نوم أو غفلة نظر أو توهم عقل شدهه هذا الفراغ الذي يطيل إليه النظر كل يوم.. ولقد ملأت ساعات يومي حتى لا أفكر فيك ولا تخطرين ببالي ولكنك مع ذلك تأتين كالضرورات، وكأن الذاكرة تستدعي ما أريد نسيانه والعين والقلب طوع أمره.
الأفق رحب هذه الأيام وأستطيع رؤية نجماته والكواكب الزاهرة والسديم المتناثر حولهما، ليتك هنا نتقاسم هذا الجمال الإلهي المعجز، ليتك هنا فأنظر لعينيك فينجلي عني الهم وينفضّ عن كاهلي الألم ويتجدد أمر نفسي بأحاديثك العذبة ونغمات حروفك الفصيحة الحكيمة، ويبش ثغري ببسماتك الفاتنة الحيية، وأصالح نومي فقد جفاني مذ رحلت.
لقد وضعت يدي اليوم على فؤاد وتحسست نبضاته فوجدها على غير العادة منزعجة وسريعة، والأنفاس مضطربة تتسابق وصدري يعلو وينخفض في توتر كأن حملًا أطبق علىه لا يبرحه، أنت أعلم مني بتبدل حال المحب لغياب شِقه، وأعلم بالوردة حين تُنزع من موطنها، وأعلم بالدمعة التي تنحدر مني الآن فتبل الرسالة.
أكتب إليك لأني وعدتك بالكتابة وقد كان موثقًا قيدت به نفسي، ولا أعلم للعهود ثقلًا قبل هذا اليوم، فإني أدفع بهذا الكتاب حنثًا أحنثه وأجلّي به عن نفسي همًا أحمله وأحرك به الماء حتى لا يأسن.
مساحة الصمت تضيق بي وتلفظني وتتجهم في وجهي، لم يعد الصمت مريحًا كالسابق فالصمت يكبل المشاعر ويسرق الأيام ويبدد السعادة البسيطة التي تمد يدها كي تتلقفنا منه، يأبى إلا أن يجعل الحياة رتيبة ومعادة ومريضة، يكسوها من بروده برودة لا يعرفها إلا المنتظر على جمر الغضى.
عزيزتي:
لا مرحبًا بغدٍ ولا أهلًا به
إذا كان ترحالُ الأحبةِ في غدٍ
أوصيك وصية عهد تكون وثيقة لا تُحل ولا تنطوي، أن يكون وجهك حاضر يوم رقادي وتعبي فلا آمل أن تكون حياتي جافية منك ومماتي كذلك، فإن لم تجمعنا عدالة الأرض فلتجمعنا عدالة السماء.
كوني بخير يا عزيزتي والله يحفظك ويرعاك!

قد يعجبك ايضا
تعليقات