القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

من يوميات السيد: نابغ خالد – آفة الرأي العجب

94

بقلم محمود أمين

أسود بني، قصير فتي، مشيه قفز، وكلامه غمز، ومجلسه لمز، الكَرِش نصف حجمه. يأكل أكل النار، ينام نوم هر و يصحو كالمضطر. نظرته ثاقبة، فكرته واثبة، جملته صائبة؛ لو قلتَ: نعم، خالفك بقول: لا، ولو قلت: لا، خالفك بنعم كأنه ولد ليخالف الناس. العلم لديه بقِدَمِ العيش؛ فرأيه طيش، أناني شديد الأنانية كأنه يسير بمرآة فلا يرى إلا نفسه. صديقه المال، وعدوه سيرة المال، ولقد سمعته يوما يقول: الدينار متاع الدنيا: لو تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما، حبيبه الرغيف، ووساده شريف غير أنها لم تغسل من يوم شرائها فلو نظرتها لحسبتها عجينة الطين. يكذب الكذبة ومن ثم يصدقها، يدفعك للغفلة فيجعلك من شيعتها، يعمل في المقاولات العامة والتجارة فجُلّ حديثه كذب، ونصف لسانه عذب. خادع ماكر الحيلة، شديد المراس والغيلة، عينه فيها شرر، ووجهه متقطب كأنه في حَرَب، رأيته يوما يخطط لأكلة: فعقد النية، وسفّر الذرية، وأغلق هاتفه بالكلية، أدبر واستكبر فأعطانا ظهرا كالوتد ، فشمر رداءه وعقد حاجبيه فاغرا فاه وانقض كالسبع، أخذ الفرخة من وركها بيده كما يجرد السيف من غده؛ فباتت المسكينة في ظلمات لا نعرف عددها.

روّض الأستاذ نابغ خالد نفسه على الأعمال الحسابية، فنبغ فيها وفاق أترابه من أبناء بلدته، فقد استطاع في الصف الثالث الابتدائي إجابة ضرب اثنين في اثنين، فأسند إليه أبوه عد المال. برع في هواية كرة القدم، وكان أحد أعضاء الفريق المدرسي وهو ابن أحد عشر عاما، وظهرت عليه علامات المكر والخديعة بعد عامه الرابع عشر، كما يتحدد في تلك السن خصائص الشخصية وسماتها. كان صاحبنا الأستاذ كثير الكلام فيما يعرف وما لا تعرف فيما يخصه وما لا يخصه، وترتب الكثير من المشكلات على هذه الآفة: حتى أنه في يوم دارت مناقشة حادة -وهو صغير- بينه وبين زميل له فيما يخص الطبيعة الفسيولوجية للأرنب هل تبيض الأرنب أم تلد؟ فكانت إجابة صاحبنا: أنها تبيض، واستدل على ذلك أن الأرنب تعيش مع الدجاجات والدجاجات يبضن، ويعيش مع البط والبط يبيض، وتحفر لصغارها نفقا في الأرض والبيضة أليق ما يكون للحُفَر وعمقها وظُلمتها، وما كان جواب زميله إلا أن صفعه صفعة -تغير من وقعها ملامح وجهه- ثم قال له: من علمك هذا أيها الجاهل الأحمق، فقال: العلم والتجربة، فقال له زميله: لقد ضل عقلك يوم زين لك أنك تستطيع أن تثبت فكرتك، ولو عارضت الطبيعة والحياة، إن العقل يسمو ويسمو معه الإنسان بحسن التفكير وتلقف الأفكار كما نتلقف الفاكهة الناضجة من أغصانها، فلو تعجلنا عليها لأخذناها مُرة يابسة لا نستطيع أكلها، فاصبر على فكرتك ولا تعارض لتثبت صلابة رأيك وأصالته وأن لا رأي سواه، فقد تكون على ضلال ولو كنت ذرف اللسان قوي البيان بعيد الفصاحة، ولا يخدعنك عقلك بحكمة أخيك فخذها.

وتوالت الأيام وكحّلت الشمس عيونها للقمر في رقة ودلال ولكن الله حكم عليهما بألا يجتمعا ولو لمرة، استيقظ صاحبنا على قطاع عريض من حياته، فنظر في هاتفه ليتبين الوقت والتاريخ؛ فوجد نفسه بين يدي سنة ألفين وواحد وعشرين: فدعك عينيه ثم نظر ثانية وهو مولود في التسعينات.. كيف يمر به الوقت كما مر على أصحاب الكهف؟ وأخذ يتمتم بكلمات كمن فاته الخير الكثير ولم يأخذ لنفسه، والنفس عند فوات الحظ تندم وتقول: لو، فركب رجليه على الفور وأسرع للبلكونة ينظر في دهشة بعينيه في سرعة الملهوف، يقلب عينيه يمنة ويسرة لعله يصادف تاريخا قديما على إحدى الإعلانات، وقد كان من سكان حي قديم فما بالك لو زاد القديم في قدمه، تعطيه الحياة بريقا قدسيا ولمحة من العظمة العريقة، فخطف نفسه من تلك الأفكار التي كانت تعجبه في كتب التاريخ، وأخذ يحوّل بصره لكنه لم يجد ما يشفي ظمأ طلبه لمعرفة التاريخ، ولكنه لاحظ الناس في هرج ومرج كأن القيامة آذنت بميعاد هولها، وكأن السرعة انتقلت من الزمن إلى الأشخاص، فهذا يجري وراء التاكسي لا يقف على مهل ويشاور له كما اعتاد أن يرى، وهذه تتأبط وليدها بأربطة كأذرعة الشنطة المدرسة وتهرول في مشيتها ووليدها يأخذ حظه من النظر إلى دنيا الناس فما باله لو كبر وكبر وفي ذاكرته تلك –دنيا الناس- وللمرة الثانية ينشغل باله بالخواطر المختلفة كالعادة مع هول ما هو فيه فقفل راجعا لسريره وجلس في هدوء واتكأ يلتقط أنفاسه فأخذه النعاس ونام نوما عميقا، ثم استيقظ بأفكاره هي هي ونظر لهاتفه فوجد نفسه التي فقد وتارخه الذي يريد: فحوقل وبسمل، وقال: لا أُعمل فكري فيما لا يعنيني، أنا اليوم أُشهد نفسي أن عقلي تحت سلطاني ولستُ تحت سلطان عقلي.

 

قد يعجبك ايضا
تعليقات