القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

العدل والمساواة دليل الخير والصلاح

113

بقلم د _محمد بركات

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

فإن العدل قيمة رفيعة في ذاتها تستمد مداها من انتشار المساواة بين الناس والإسلام هو دين العدل والمساواة وقد وضع الإسلام الأسس القويمة لإحكامِ التَّعامُل بَين
النّاس وضَبطِها وضَمانِ حُصولِ كلِّ فردٍ أو فِئةٍ على حقّهم كاملًا دون انتقاصٍ مِن أحد الأطرافِ، سواءً في مَجالاتِ التجارة أوالمُعاملاتِ والعَمل

، ووَضَع الإسلامُ كَمصدرٍ تشريعيٍّ مجموعةً من القِيَم والمَبادئ الرَّفيعة والقويمة لِتُساعِدَ النَّاسَ على إتمامِ التَّعامُل فيما بَينهم، مع الحرصِ على الإبقاء على المَودّة والرَّحمة والمحبّة فيما بَينهم، ومِن هذا المَنظور انطلقَ مَفهوم العَدالةَ في الإِسلام، فالعَدالةُ لَيست مَحصورةً في مَوضوعٍ مُعيّن بل هي متعددة ، وإنّما تَتطرّق إلى أبوابٍ عديدة وكثيرة، ولكنَّ أَساس كُلِّ العَدالات هو العَدلُ الرَبَّاني، فمِن غَير العَدل لا تَقومُ الحَضارةُ ولا تَسودُ.
وكيف تسود بلا عدل لا يمكن بأي حال من الأحوال.

العَدلُ في اللُغةً هو التَّوسُّطُ بَين الِإفراطِ والتَّفريط والاعتدالِ في الأمور، ويُقابِلها الظُّلم والجور، ونَقيضُهُ الظُّلم، جاءَ في مَعجَم المَعاني: عدَلَ/عدَلَ إلى يَعدِل، عَدْلاً وَعُدُولاً وعَدَالَة، ومَعْدِلَة، فهو عادِل. عدَل بَين المُتخاصِمين: أَنْصَفَ بَينهُما وتجنَّبَ الظُّلْمَ والجَوْرَ، أَعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه.[ “معنى عدل”، معجم المعاني]

وفي لسانِ العرب: العَدلُ ما قامَ في النُّفوسِ أنَّه مُستَقيمٌ وهو ضِدَّ الجور.[ تفسير كلمة عدل، لسان العرب] العدلُ اصطلاحاً العَدلُ صِفةٌ راسِخةٌ اتَّصفَ الله سبحانهُ وتَعالى بها وسمَّاها لِنَفسِه، وهو في الأَصلِ مَصدَرٌ سُمّي به فَوُضِع موضِعَ -اسم الفاعل- العادِل، والمَصدَر أبلغُ مِنه لأنَّه جَعَل المُسمّى نفسَه عَدلاً.[ “العدل والمساواة”، منارة الإسلام]

وفي تَهذيب الأخلاق: (العَدلُ هو استِعمال الأُمور في مَواضِعها، وأوقاتِها، ووجوهِها، ومَقاديرها، من غير سَرَفٍ، ولا تقصيرٍ، ولا تقديمٍ، ولا تأخيرٍ).[الجاحظ، تهذيب الأخلاق، ص28]

ومن العَدلِ العَدالَةُ، وهيَ مَلَكةٌ تؤدِّبُ صاحبها وتَحمِلُهُ على الفضائِلِ، والاستقامةِ، والتَّوسُّطِ من غيرِ إفراطٍ ولا تَفريطٍ ولا اجحافٍ ولا تَفضيل، والعَدلُ هو الاستِقامَة على طريقِ الحَقِّ بالاجتِناب عمَّا هو مَحظورٌ ديناً.[علي الجرجاني، التعريفات، ص 147]

والعَدلُ هو أن تُعطي من نفسِك الواجِب وتأخُذه.
[ علي ابن حزم، الأخلاق والسير، ص 81.و “الأخلاق الاسلامية: العدل”، دكتور أحمد كلحي: موسوعة الأخلاق الإسلامية]

وعندما تتأمل العدل في الإسلام تجد أنه من كَرَمِ الله عزَّ وجَلَّ علينا أنْ نَظَّم للنّاسِ تعَامُلاتِهمْ وعَلاقَاتِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمُ، وتمَمَّ لهُم الفضائِلَ والأَخلاق والأحكَامَ النّاظِمَة لكلِّ شؤُونِ حياتِهِمْ، والضّامِنةِ لتَساوِي حُقوقهم وتَمامِ واجِباتهِم ومُستحقَّاتهم، فَجَعلَ العَدلَ ميزاناً يُلزِمُ الجميعَ بقضاءِ ما عليهِم واستحقاقِ ما لهم دونَ تَعدٍّ ولا إفراطٍ أو تفريط، وقَد رَفَع الله شأنَ العدلِ وسمَّاه في أسمائِه وميَّزهُ في صِفاته.
، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).[سورة النحل، آية: 90]
قال سَعيدُ عن قَتادة قولُه: (إنَّ الله يأمُر بالعَدل والإحسَان) ليسَ من خُلُقٍ حَسَنٍ كانَ أهلُ الجاهليَّة يَعمَلون به ويستحسِنونَهُ إلَّا أَمَر الله بِه، وليسَ من خُلُقٍ سَيءٍ كانوا يَتعايَرونه بَينهم إلا نَهَى الله عنهُ وقَدَّم فيه، وإنَّما نَهَى عن سَفاسِفِ الأخلاقِ ومَذامِّها).[ابن كثير، تفسير ابن كثير، صفحة 277]
وفي الآيةِ يأمُرُ الله تعالى عبادَهُ بالعَدلِ وهو القِسطُ والمُوازَنَة، ويَنهى عنِ البغيِ وهوَ العدوانُ على النَّاس. ومَقصودُ التَّشريعِ إقامةُ العَدلِ بينَ النَّاس.
[ محمد الخضر حسين، “القضاء العادل في الاسلام”، الدرر السنية ، رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عروة بن الزبير ،رقم: 4303]

و مِن سِمات العَدل في الإسلام أنّهُ لا عاطفةٌ فيه؛ فلا يتأثَّر بمالٍ أو عرقٍ أو نَسَب، وفي التَّاريخِ الإسلاميِّ أمثلةٌ تُبرهِنُ صِدقَ الصِّفةِ وشُمولِها؛ ومِن ذلكَ حادِثةُ المرأةِ المخزوميَّةِ التي سَرقَت في عَهدِ رَسولِ اللهِ -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-، ففي صحيحِ البُخاري: (أنَّ امرأةً سَرَقَت في عهدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في غَزوةِ الفتحِ، فَفَزِع قومُها إلى أسامَةَ بن زيدٍ يَستشفِعونَه، قال عُروةُ: فلمَّا كَلَّمَهُ أسامةُ فيها تَلوَّن وَجهُ رسولِ اللهِ صلَّ اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فقال: (أتكلِّمُني في حدٍّ من حدودِ اللهِ؟). قال أسامة: استغفِرْ لي يا رسولَ اللهِ، فلمَّا كان العَشيُّ قامَ رسولُ اللهِ خطيباً، فأَثنى على اللهِ بِما هو أهله، ثم قال: (أمَّا بَعدُ، فإنَّما أهلَكَ النَّاس قبلَكم أنَّهم كانوا إذا سَرَقَ فيهِم الشَّريفُ تركوهُ، وإذا سَرَق فيهم الضَّعيفُ أقاموا عليهِ الحدَّ، والذي نفسُ محمدٍ بيده، لو أنَّ فاطِمةَُ بنت محمد سرقتْ لقطعتُ يدَها). ثم أمَر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بتلك المرأةِ فقُطعت يدُها، فَحَسُنت توبتُها بعد ذلك وتزوّجَت. قالت عائشةُ: فكانت تأتي بعد ذلكَ، فأرفَع حاجَتها إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ).[١٢] ومِن سِماتِ العَدلِ أنَّهُ يَرفعُ صاحِبَهُ عندَ الله ويَمنَحهُ منزلةً عظيمةً وشرفاً ربَّانياً قَرَنَهُ الله بذاتِهِ، وفي الحديثِ الشَّريف: (إنَّ المُقسِطينَ عند اللِه على منابرَ من نورٍ عن يمينِ الرَّحمنِ عَزَّ وجَلَّ، وكِلتَا يديهِ يمينٌ، الذين يَعدِلونَ في حُكمهِم وأهليهِم وما وُلّوا)
[رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عبدالله بن عمرو، رقم: 1827]
فالعادِلونَ في حُكمِهم وخِلافَتِهم في أهليهِم وفِيمَن ولَّاهُمُ الله عليهِم مُقَرَّبونَ عندَ اللهِ تعالى ومُكرَّمونَ لديهِ، يرفَعُهُم بعدلِهِم على مَنابِرَ من نورٍ، وهيَ أماكِنُ في الجَنَّةِ مُرتَفِعةٌ غاليَةٌ كرَّمَها الله وخصَّها لفئةٍ من عبادِهِ من بينِهم أولئك الذينَ يتحرَّون العَدلَ ويُقيمونَهُ في وِلايَتِهم وما استُخلفوا فيه.

وقصة العدل قصة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، اشترى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
رضي الله عنه فرسًا من رجل من الأعراب وركبه ليُجربه ولكن سرعان ما أصاب الفَرَس عَرَج، فقال عمر رضي الله عنه للأعرابي: “خذ فرسك”، فأبى الأعرابي، فاحتكما إلى شريح القاضي، فقال شريح: “يا أمير المؤمنين خذ ما ابتعت، أو رد كما أخذت” [ابن سعد: الطبقات الكبرى، 6/ 183.].

بعد هذه الواقعة وما رآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شريح من عدل وحكمة بعثه إلى الكوفة واستقضاه عليها

وفى يوم تنازع أمير المؤمنين الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع رجلٍ نصرانيٍّ على درع، فاحتكما إلى القاضي شريح، ولمَّا جلسا عند شريح، قال علي رضي الله عنه: “يا شريح هذا الدرع درعي، لم أبع، ولم أهب”.

– فقال شريح للنصراني: “ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟”.

– فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب.

– فالتفت شريح إلى سيدنا علي رضي الله عنه وقال: “يا أمير المؤمنين، هل من بينة؟”.

– فقال عليٌّ رضي الله عنه: “ما لي بينة”، فحكم شريح القاضي بالدرع للنصراني.

– فقال النصراني متعجِّبًا: “أمير المؤمنين قدَّمني إلى قاضيه، وقاضيه يقضي عليه!”.

– فأسلم وقال: “أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أّنَّ محمدًا عبده ورسوله، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين” [ابن كثير: البداية والنهاية، 8/ 4، 5].

وقال الشعبي شهدت شريحًا وقد أتته امرأةٌ تُخاصم رجلًا وتبكي بكاءً شديدًا، فقلت: “يا أبا أميَّة ما أظنُّها إلَّا مظلومة”، فقال شريح: “يا شعبي، إنَّ أخوة يوسف جاءوا أباهم عشاءً يبكون [ابن عساكر: تاريخ دمشق، عمرو بن غرامة العمروي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1415هـ= 1995 م، 23/ 46.] وهم له ظالمون”.

وعن الشعبي، قال شريح: “إنِّي لأُصاب بالمصيبة، فأحمد الله عليها أربع مرَّات؛ أحمد إذ لم يكن أعظم منها، وأحمد إذ رزقني الصبر عليها، وأحمد إذ وفَّقني للاسترجاع لِمَا أرجو من الثواب، وأحمد إذ لم يجعلها في ديني” [الذهبي: سير أعلام النبلاء، 4/ 105].

رزقنا الله وإياكم العدل وجعله لنا طريقا إلي جناته.

قد يعجبك ايضا
تعليقات