عبدالله القطاري من تونس
يقال إن آل الصًالحي من أصل مغربي . هاجر أحد منهم إلى البلاد التّونسية فاستقرّ بالبرج بمعتمدية الهوارية …
لعله كان رومنسيا عشق البحر والجبل والسهول والطّقس المعتدل …
تكاثر نسله فنسبت إليه القرية فصارت تسمى ببرج الصالحي …
مما عجز العلماء عن تأويله هو كثرة الصم في برج الصالحي ، إلى درجة أنها اشتهرت في كامل تراب الجمهورية ب( قرية البكاكش ) …
الكثير من الناس يعتقدون أن الأصم عنده مشكل في حباله الصوتية . لا أبدا ، الأصم فقط يشكو من خلل في الأذن ، فهو لم يسمع أي كلمة ليحفظها ، فنراه يصيح عند الفرح أو الغضب أو الألم ، هكذا عشوائيا بأصوات بلا معنى …
الله سبحانه وتعالى عوض لهم نعمة السمع التي افتقدوها بالذكاء حاد وبقوة البدن وببراعة يدوية رهيبة فأنشئت لهم مدرسة للصم في نفس المكان لصقل مواهبهم وتطويرها … والحمد لله شفى أهل برج الصالحي من هذه العاهة ، فلم تشهد المنطقة ولا مولودا واحدا أصم منذ سنوات طويلة …
معاوية ابن عمتي أصم ، قضينا طفولتنا معا بقرية الغرفة ، الحزب المنشق عن برج الصالحي . لقد تعلمت منه لغة الإشارات وتفننت فيها ، إلى درجة أنه بإمكاني الحديث معه باستعمال قسمات الوجه وبعض حركات الرأس فقط ودون اللجوء إلى الأيادي … عمتي لا تتواصل مع معاوية ابنها بالحركات ، تخاطبه وكأنها تخاطب إنسانا سويا مكتفية بإشارة واحدة، من خلالها يفهم بسهولة المطلوب منه …
إياك أن يذهب في ظنك أن الأصم يجهل ما يدور حول العالم من أخبار ، ولا يغتاب ولا يشتم ، ولا يسبح بحمد ربه . الأصم له من الحركات ما يشفي غليلة في جميع المجالات خيرها وشرها …
لا زلت أذكر يوم زفاف معاوية ، صاحبني في سيارتي إلى الحلاق واحتفلنا كما يحتفل أهل القرية … في السهرة وقبل إلتحاق العروس بعريسه ، وجدتني في قاعة جلوس عم العريس وبه أصدقاء معاوية ، كلهم يتواصلون بالحركات . جلست على كرسي أراقب المشهد الفريد …
جلس بجانبي شاب أصم ، حياني بأدب وانطلق يحدثني على ما يبدو على أحد مغامراته في البحر . اكتشفت أنه يستعمل حركات غريبة عني أجهل معناها تماما . أثناء سرده ، أراد تقييم فهمي فسألني : هل تفهمني ؟
أجبته : لم أفهم شيئا .
ويا ليتني ما قلت ، فقد أعاد سرد الحكاية من البداية . وفي نفس المرحلة طرح علي نفس السؤال : هل فهمت ؟
قلت : ليس كما يجب .
وقف من على كرسيه ، ورفع يده وصاح بأعلى صوته ، فالتفت إليه الجميع وقال مستعملا بعض إشارة ترجمتها : هذا مجنون .
ضحك كل من بالقاعة واحمر وجهي خجلا ، لحظتها تمنيت لأول مرة أن أكون أصما لأفهم كل الإشارات …
وفي نهاية السهرة رأيت صاحبي الذي نعتني بالجنون يتجه نحوي ، يودعني بحرارة ويعتذر عن ما صدر منه خلال السهرة …
ليلتها فقط عرفت أن الأمة الجاهلة قد تجتمع على ظلالة وتلغي الأقلية رغم علمها
ليلتها فقط تأكدت أن الإنتخابات لا معنى لها إذا كان أغلبية الناخبين يعانون من الجهل