القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

حبشى جرجس

122

وفاء خروبة 

أول من أدخل الإذاعة لبر المحروسة ، درس هندسة الاتصالات فى لندن فى عشرينات القرن الماضى وعاد للقاهرة يحمل هدية قيمة للأهل والأصدقاء ، عدة أجهزة راديو ، كثيرين ممن أهداهم الراديو يهتموا به كثيرا ، فالمحطات تبث برامجها وأغانيها باللغات الأجنبية ، وأجهزة الراديو لا يملكها إلا أجانب أو إقطاعيون واثرياء ..

“حبشى جرجس” فكر فى الحكاية ، والبداية كانت سؤال بديهى جدا ، لماذا لا يكون لدينا إذاعة محلية تتحدث بلغة أهل مصر وتناقش مشاكلهم وتبث أغانيهم ، وقتها الحرب العالمية الأولى كانت انتهت وراجت في “وكالة البلح” تجارة جديدة ، وهى مخلفات الحرب ، إذ يقوم تجار الأدوات المنزلية بصهرها وإعادة تدويرها ..

ذهب المهندس حبشى إلى وكالة البلح وبدأ البحث ، وفعلا وجد فى محل المعلم “إلياس شقال” الأدوات التى تمكنه من بث إذاعة محلية لكن الأسعار غالية ، وعندما سأله عن سبب اهتمامه بهذه الأدوات صارحه بحلمه فى إنشاء إذاعة مصرية ، الفكرة عجبت المعلم “شقال” وقرر يشاركه بتكلفة 600 جنيه وغرفة فى بيت المعلم إلياس فى شبرا بدأ بث أول إذاعة مصرية ..

استقدم حبشي مطربين للغناء فى الإذاعة منهم فريد الأطرش وأسمهان وقدمهما للجمهور عبر إذاعته ، واستعان بأنور وجدي لتقديم مونولوجات إعلانية لأصناف الصابون وعلب السجائر ، أو التاجر فلان يعلن عن «أمواس حلاقة» ، والترزي الفلاني يعلن عن أحدث الموضات للسيدات والرجال ، وخلال الإعلانات أو قبلها أو بعدها تشغف الإذاعة المسامع بإسطوانة لأم كلثوم أو عبدالوهاب
أو منيرة المهدية ..

ثم قرر أن يفتتح إذاعته بتلاوة القرآن الكريم واتفق مع الشيخ “علي حزين” وبدأ البث فعلا ، فثار ضده العديد من المشايخ ووصل الأمر للتجمهر ، وكان اعتراضهم على قراءة القرآن من ميكروفون تبث منه الأغاني ، واستطاع حبشي امتصاص غضبهم بإعلانه إشراكهم في إختيار افضل الأصوات الحسنة لتلاوة القرآن ..

حدد “حبشى” نصف ريال اشتراكا للجمهور في مقابل أن يطلب المشترك ما يريد الاستماع إليه في خطاب موقع برقم اشتراكه في الإذاعة أو اتصال تليفونى ، وذاع صيت الإذاعة “حبشي” ووصلت الايرادات إلى ١٠ جنيهات يوميا ، وشب خلاف بين الشريكين على الإدارة ، وطالب “إلياس شقال” برد ٦٠٠ جنيه قيمة مساهمته ، دفعها إسماعيل وهبي شقيق الفنان يوسف بك وهبي ، و دكتور أحمد فريد الرفاعي مدير المطبوعات فيما بعد وأصبحا شريكا حبشى فى الإذاعة التى انتقلت إلى شقة فى حدائق القبة ..

من المواقف الطريفة أن سيدة زارت المحطة ودفعت مبلغ 50 جنية دفعة واحدة كإشتراك منها على أن تذيع لها المحطة أسطوانتين “الجو رايق” لـ “محمد عبد الوهاب” ، و “فى الجو غيم” لـ “صالح عبد الحى” وكان شرطها الوحيد هو أن تقوم المحطة بقطع ما تذيعه وتبث أسطوانة من الإثنتين تحددها السيدة فى الوقت الذى تريده بالتليفون ، أستمر الحال لفترة طويلة ..

فجأة تتصل السيدة وتطلب ما تريده والمحطة تقطع الإرسال وتذيع الأغنية التى حددتها وفى صباح أحد الأيام فوجئت المحطة بالبوليس يحاصرها ويفتش مكاتبها ويقبض على المهندس “حبشى جرجس” وتستدعى النيابة محمد عبد الوهاب وصالح عبد الحى للتحقيق فى قضية الإتجار فى المخدرات ..

التحقيقات كشفت أن “السيدة” تتزعم عصابة تهريب وإتجار فى المخدارات وكانت تراسلهم عن طريق الإذاعة ، فأغنية عبد الوهاب “الجو رايق” تعنى أن الوقت مناسب للتهريب ، وأغنية صالح عبد الحى “فى الجو غيم” تعنى أن البوليس يراقبهم ويأجلوا العملية لوقت آخر ..

بعد القبض على العصابة أعترفوا بالتفاصيل فتم القبض على “حبشى و عبدالوهاب و صالح عبدالحى” كشركاء فى الجريمة وترافع عنهم اسماعيل وهبى فى المحكمة وأثبت حسن نية المحطة فى التعاقد مع زعيمة العصابة فتم تبرأة الثلاثة ..

النجاح المبهر لإذاعة “حبشى” وصل إلي أسيوط والإسكندرية بخلاف القاهرة ، وكان الناس يتناقلون اسمه ويقولون «حبشي جرجس أذاع اليوم أغنية كذا أو إعلان عن كذا” ..

أغرى هذا النجاح آخرين فأنشأوا إذاعات مماثلة من باب التجارة وبحثا عن الأرباح ، وهناك إذاعات دفعها الجنون إلى تخصيص محطات لبث رسائل الحب والهوى كما فعل اليونانى “رينى” لمحبوبته الإيطالية ، وإذاعات أخرى لبث إعلانات ومضاربات تجارية وأغنيات مبتذلة ، وإعلانات عن راقصات كلود بك وعوالم شارع محمد علي ..

وصل الأمر إلى الإعلان عن أماكن ممارسة البغاء وتقديم وصلات سباب لتصفية الخلافات الشخصية لمن يدفع ، وبدأ أصحاب المحطات فى إبرام اتفاقات مع أصحاب المقاهي يقدمون لهم أجهزة استقبال مجانية فى مقابل تشغيل إذاعتهم فقط ورفع الصوت حتى يسمع كل سكان المنطقة ، وامتدت فترات العمل الإذاعي لأوقات متأخرة من الليل ، ما أدى بالنهاية إلى انزعاج السكان وتقديم شكاوى إلى أقسام الشرطة ورفع دعاوي قضائية لوقف هذه الضوضاء المسيئة للأخلاق والذوق العام ..

تزامن مع هذا الأسفاف والإنفلات رغبة قوية من الإحتلال الإنجليزى فى إغلاق محطة “حبشى جرجس” التى استقدمت مفكرين وكتاب متميزين للحديث وتقديم محاضرات إذاعية راقية أمثال عبد العزيز الإسلامبولي وسلامة موسى ودكتور علي مظهر وفؤاد صروف وأحمد فؤاد الأهواني ، وقتها توفيق باشا دوس وزير المواصلات أعلن بأن الوزارة ستستعين بالأمن العام حتى لا يتم استخدام الراديو على نحو يزعج المواطنين ، ودعا أصحاب الإذاعات للقائه للاتفاق على مواعيد محددة للبث ، ولم يلتزم أصحاب الإذاعات خوفا من الخسارة إذا لم تمد الحكومة فترات عمل الإذاعة إلى وقت متأخر ..

خرجت وزارة الداخلية لتعلن أنها ستقوم باتخاذ اجراءات حازمة وأن الحكومة لن تصمت وسوف تضع قريبا تشريع سيكفل الراحة للجميع ، وخرج حكمدار القاهرة ليعلن قراره بغلق المحال التي تسبب ازعاج للجمهور بالإذاعات ، وتحمس خطباء المساجد لانتقاد عمل هذه الإذاعات التي تعلن عن أماكن ممارسة البغاء ، وأعلنت الحكومة أنها تنشأ محطة إذاعية كبرى ، وأنها سوف تسمح للملتزمين فقط من أصحاب الإذاعات الخاصة بالاستمرار في البث حتى إطلاق هذه الإذاعة بعد ١٠ شهور ، مع سحب تراخيص أية محطة مخالفة ..

عندئذ اجتمع أصحاب المحطات وشكلوا «اتحاداً» جعلوا له محطة إذاعة تسمي «دار اتحاد محطات الإذاعة الأهلية» ومن هذه الدار أذاعوا علي الجمهور كلماتهم الأخيرة أذاعوا «استعطافات» مؤثرة موجهة إلي الحكومة ، فلما فشلت استعطافاتهم ، بدأوأ يودعون المستمعين ، ومطربي الإذاعة ومحدثيها ..

انتهت مراسم الوداع علي هذا النحو المؤثر وشيعت محطات الإذاعة الأهلية إلي المقر الأخير وقبل أن تواري الثرى ألقي إسماعيل وهبي شقيق يوسف وهبي رثاءاً حاراً علي روح الإذاعات الأهلية ، واختتم الوداع بالقرآن الكريم 

قد يعجبك ايضا
تعليقات