القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

بن عثمانَ وعليٍّ.

93

بقلم/ حمادة توفيق.
كانت الفتنةُ التي جرتْ في عهدِ ذي النورينِ عثمانَ بنِ عفانَ – رضي اللهُ عنه – عظيمةً مروِّعَةً إلى الحدِّ الذي غيرَ مسارَ التاريخِ البشريِّ الإسلاميِّ العربيِّ برمِّته، وما سمعَ بمثلها سامعٌ أو علمَ بمثلها عالمٌ في عهدِ أبي بكرٍ أو عمرَ، وما كان ذلك إلا لشدةِ الشيخينِ على الأقاربِ من قومهما قبل الغرباءِ، وقوةِ تقشُّفِهما وزهدهما وورعهما رضي اللهُ عنهما وأرضاهما.
لذلك صحَّ حقًّا أن يُقالَ في شأنِ الفاروقِ – عليه نسائمُ الرحمةِ والرضوانِ – أنه كانَ بابًا موصدًا في وجهِ الفتنةِ، فلما ماتَ فُتحَ على مصراعيهِ فولجتْ الفتنةُ بقضِّها وقضيضها!
ربما من أسبابِ الفتنةِ العظمى التي وقعتْ أحداثُها في عهدِ ذي النورينِ حياؤه الشديدُ ورقةُ قلبهِ ولينُه الذي لم يكن له في ضروبِ اللّينِِ مثيلٌ أو نظيرٌ، ما تسببَ في طمعِ ذويهِ من بني أميَّةَ في العطايا والمناصبِ، ومن ثمَّ في شيوعِ الفسادِ وذيوعهِ إلى الحدِّ الذي أججَ الفتنةَ فانتهتْ في النهايةِ بمقتلِ عثمانَ صائمًا وقد سالَ دمُهُ – عليه رضوان الله – على قولِ اللهِ – جلَّ في علاه -: (فسيكفيكهم الله).
وليسَ بمستغربٍ البتةَ أن يجعلَ بنو أميةَ المترفونَ أصحابُ المناصبِ الرفيعةِ والبطونِ المنتفخةِ عليًّا شمَّاعةً يُعلقونَ عليها أخطاءهم السياسيةَ والخلقيةَ والماليةَ، فمنذ اللحظةِ الأولى التي أخذَ البيعةَ فيها عبدالرحمنِ بنُ عوفٍ إذ اجتمعَ بعليٍّ وعثمان، ثم بايعَ عليًّا وعادَ في قولتهِ لسببٍ لا نعرفه نحن ولا يعرفه المؤرخونَ فاختارَ عثمانَ، وقد نشبت نارُ فتنةٍ لم تخمد ولم تهدأ حتى انتهت بشرٍّ عظيمٍ لا زلنا حتى اليومِ نتجرَّعُ ويلاتِهِ الكبارَ.
لا شكَّ أن عليًّا – رضي الله عنه – كان يرى نفسه أحقَّ بالخلافةِ من عثمانَ، ولكن والحقُّ يُقالُ ما كان عليٌّ يريدُ الخلافةَ لهوىً في نفسهِ أو لمطمعٍ شخصيٍّ وإنما لتحقيقِ مبادئِ دينٍ كان قد أرساها ابنُ عمِّهِ – المصطفى – صلوات ربي وسلامه عليه.
في الواقعِ تناولَ أحداثَ الفتنةِ العظمى التي كانت في عهدِ عثمانَ كثيرٌ من المؤرخينَ على فتراتٍ زمنيَّةٍ مختلفةٍ، وفاضتْ بها كتبٌ عدةٌ ومؤلفاتٌ شتّى، فاختلطَ فيها الحابلُ بالنابلِ من المؤلفينَ والمصنفينَ، وأنتجوا لنا الغثَّ والسمينَ، حتى أنك لا تكادُ تجدُ الحقَّ إذا التمسته بين ركام ما كُتِبَ إلا على استحياءٍ.
لكن هذا لا يعني على أيِّ حالٍ أن خلافةَ ذي النورينِ كانتْ بيضاءَ نقيةً لا تشوبها شائبةٌ، فالحقُّ أنها كانتْ مليئةً بمآسٍ وفظائعَ كان السببُ الرئيسيُّ فيها لينُ أميرِ المؤمنينَ من جانبٍ وتساهلُه مع ذويهِ من جانبٍ آخرَ، فتعالَ معي صديقي لأذكرَ لك شيئًا يسيرًا منها لأخذِ العظةِ والعبرةِ ليس إلا، وكن على يقينٍ أنني لن أذكرَ لك إلا ما كنتُ واثقًا من حدوثهِ ووقوعهِ كَفَلَقِ الصُّبحِ.
فلقد وردَ أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه – هو بنفسه الذي أمر بجلد أخيه لأمه الوليد بن عقبة الذي وصفه الذهبيُّ (بالفاسق).
ففي صحيح مسلم، عن حضين (بالضاد) بن المنذر أبو ساسان، قال: شهدتُّ عثمان بن عفان وأتي بالوليد قد صلى الصبح ركعتين، ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ، فقال عثمان: إنه لم يتقيأ حتى شربها، فقال: يا علي، قم فاجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها، فكأنه وجد عليه، فقال: يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده، فجلده وعلي يعدُّ حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك، ثم قال: جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌٌ سنة، وهذا أحب إلي.
وفي صحيح البخاري: عن الزهري، حدثنا عروة بن الزبير، أن عبيد الله بن عدي بن الخيار، أخبره أن المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، قالا له: ما يمنعك أن تكلم خالك عثمان في أخيه الوليد بن عقبة، وكان أكثر الناس فيما فعل به، قال عبيد الله: فانتصبت لعثمان حين خرج إلى الصلاة، فقلت له: إن لي إليك حاجة، وهي نصيحة، فقال: أيها المرء، أعوذ بالله منك، فانصرفت، فلما قضيت الصلاة جلست إلى المسور وإلى ابن عبد يغوث، فحدثتهما بالذي قلت لعثمان، وقال لي، فقالا: قد قضيت الذي كان عليك، فبينما أنا جالس معهما، إذ جاءني رسول عثمان، فقالا لي: قد ابتلاك الله، فانطلقت حتى دخلت عليه، فقال: ما نصيحتك التي ذكرت آنفًا؟ قال: فتشهدت، ثم قلت: “إن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه الكتاب، وكنتَ ممن استجاب لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وآمنتَ به، وهاجرتَ الهجرتين الأوليين، وصحبتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيتَ هديَه، وقد أكثر الناس في شأن الوليد بن عقبة، فحق عليك أن تقيم عليه الحد.
فقال لي: يا ابن أخي، آدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: قلت: لا، ولكن قد خلص إلي من علمه ما خلص إلى العذراء في سترها، قال: فتشهد عثمان، فقال: إن الله قد بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، وكنت ممن استجاب لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وآمنت بما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم، وهاجرت الهجرتين الأوليين، كما قلت، وصحبت رسول الله وبايعته، والله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله، ثم استخلف الله أبا بكر، فوالله ما عصيته ولا غششته، ثم استخلف عمر، فوالله ما عصيته ولا غششته، ثم استُخلفت، أفليس لي عليكم مثل الذي كان لهم علي؟ قال: بلى، قال: فما هذه الأحاديث التي تبلغني عنكم؟ فأما ما ذكرت من شأن الوليد بن عقبة، فسنأخذ فيه – إن شاء الله – بالحق، قال: فجلد الوليد أربعين جلدة، وأمر عليا أن يجلده، وكان هو يجلده.
قال ابن تيمية: ” عثمان هو الذي أمر عليا بإقامة الحد عليه، كما ثبت ذلك في الصحيح، وعلي خفف عنه وجلده أربعين، ولو جلده ثمانين لم ينكر عليه عثمان” اهـ. من منهاج السنة.
الحقيقةُ هذه القصةُ ذاتُ أهميةٍ كبيرةٍ من الناحيةِ الاجتماعيةِ والنفسيةِ، والمؤرخون القدماء لم يهتموا بها من هذه الناحية، إنما هم قد اختلفوا في شأن عثمان، منهم من قال بأن عثمان كان محقًّا في تساهلهِ مع الوليدِ، سبب ذلك أن الوليد لم يثبت بشهادة شهود عدول أنه شرب الخمر، وهؤلاء المؤرخون يعتبرون القوم قد تحاملوا على الوليد بغير حق.
وعلى أي حال فلمثل هذه الفعال المستقبحة المستهجنة وغيرها وصل الأمر بعثمان إلى النهاية المأساوية التي كانت.
يقولُ البلاذري – وكان مؤرخًا ثقةً عدلًا الحقيقة -: “لما اشتدَّ الثوارُ على عثمانَ دخل عليه عليٌّ متوسطًا فاستكتبه ميثاقًا على نفسهِ هذا نصه: “بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتابٌ من عبدالله عثمان أمير المؤمنين لمن نقم عليه من المؤمنين والمسلمين: “إن لكم أن أعمل فيكم بكتاب الله وسنة نبيه، يُعطى المحرومُ، ويؤمنُ الخائفُ، ويُرَدُّ المنفيُّ، ولا تجمرُ البعوثُ، ويوفرُ الفيءُ، وعليُّ بنُ أبي طالبٍ ضمينُ المؤمنينَ والمسلمينَ على عثمانَ بالوفاءِ في هذا الكتابِ ..”.
ثم قالَ عليٌّ لعثمانَ: “اخرجْ فتكلمْ كلامًا يسمعه الناسُ ويحملونه عنك، وأشهد الله على ما في قلبك، فإن البلاد قد تمخضت عليك، ولا تأمن أن يأتي وفد آخر من الكوفة أو من البصرة أو من مصر، فتقول: يا عليُّ اركب إليهم، فإن لم أفعلْ قلت: قطع رحمي واستخفَّ بحقي”.
فخرج عثمان على الناس يعلن توبته ويستغفر الله ويقول: “من زل فلينب، وأنا أول من اتعظَ، فإذا زللتُ فليأتني أشرافكم فليردوني برأيهم، فوالله لو ردني إلى الحقِّ عبدٌ لاتبعته، وما عند الله مذهب إلا إليه”.
فسُرَّ الناس بذلك واجتمعوا إلى بابه مبتهجين مما كان، ولكن مروان بن الحكم خرج إليهم زاجرًا فقال: “شاهت وجوهكم، ما اجتماعكم؟ أميرُ المؤمنين مشغول عنكم وإذا احتاج إلى أحد منكم فسيدعوه فانصرفوا”.
وبلغَ عليَّ الخبرُ فأتى عثمانَ وهو مغضبٌ فقالَ له: “أما رضيتَ من مروان وما رضي منك إلا بإفساد دينك وخديعتك عن عقلك؟ وإني لأراه سيوردك ثم لا يصدرك، وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك”.
في الواقع تلك الرواية التي يرويها البلاذري يُجمعُ على صحتها المؤرخون، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على مدى ما للبطانة والرفقة من تأثير على الحاكم.
على أي حال وقعت الفتنة كما نعلم جميعًا وقُتِلَ عثمانُ، وللأسف لم يكن مقتله شهيدًا نهايةً للفتنة بل كان بدايةً لها، ولقد جرَّت من الويلات ما كابدنا ونكابد حتى يومنا هذا، ولو لم تكن سببًا إلا في إنهاء خلافة النبوة وفتح الباب للملك العضوض الذي تم على يد معاوية من بعد لكفى، وإلى الله المشتكى.

قد يعجبك ايضا
تعليقات