القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

كبسولات قصصية

105

رشا فوزي

ألم
دخلت القاعة في كامل تبرّجها، بثوب يكشف أكثر مما يخفي، وحقيبة صغيرة تحملها براحة يدها، وقد بلغت الليلة من الإثارة ذروتها.
تسير بخطى ثابتة مخترقة الجمع بتأني مدروس، وهي تشعر بكل الأعين الشرهة المصوبة تجاها تجردها بعين الخيال من ثوبها الفاضح المثير.
جلست في مكانها المعتاد عند البار، وما إن رأها البرمان حتى قدم لها مشروبها المعتاد..
– bloody Mary!
جاءها الصوت من خلفها؛ لتلتفت وتجده منتصباً امامها بكامل فتنته وسحره، وقد زادته أعوامه الأربعون جاذبية فوق ما يمتلك.
– كل ليلة نفس المشروب، ألا تملين؟!
ابتسمت مجاملة وعادت لوضعها الأول معلنة عن عدم رغبتها في الصحبة، لكنه لم يهتم بذلك بل جلس إلى جوارها هامسا لها :
– أرى خلف هذا التبرج طفلة صغيرة، ما الذي يدفعك للمجيء لوكر للذئاب؟.
تطلعت في وجهه تتفحصه قبل أن تجيبه بهدوء :
– الملل!، كما أني أبحث عن شيء!
– وما هو؟!
– الألم!
اختلجت ملامحه بينما تعلقت عيناه بعينيها برهة، تلك البراءة المشوبة بحزن تكتنفهما تذكره بشخص ما!.
لم يسمح للذكرى بالتملّك منه؛ ذبحها بضحكة فاجرة قاسية، وهو ينهض من جانبها ليذوب وسط الزحام وبقايا ضحكته تتبعه، وتعود هي لمشروبها وحيدة.
عندما أنهته ألقت نظرة أخيرة على القاعة قبل أن تهم بالخروج لتجده أمامها مره أخرى!
– هل وجدت ما تبحثين عنه؟!
أومأت رأسها بالنفي.
تأملها مرة أخيرة ليتأكد من صدق رغبتها وقوتها؛ فوجدها ثابتة العزم، وبدون كلمة جذبها من يدها لخارج القاعة ليستقلا عربته، وما هي إلا دقائق حتى توقف أمام مبنى مهجور مهدم.
نظر لها بشهوة ماجنة وهو يقول:
– لنرى لأي درجة سوف تتحملين الألم!
أجابته وهي تنظر إلى الفراغ الماثل أمامها:
– لي شرط، لا تبدأ قبل إعطاءك الأذن بذلك!
أومأ موافقا، ثم خرجا من العربة متجهين إلي المبنى المهجور.
دلف أولا، وتبعته وعيناها تتجولان في المكان بسكونه المخيف وكآبته المشؤمة،
وقد بدا أنهما لم يزعجاها على الأطلاق، حتي أدخلها حجره مهدمة ضيقة ومظلمة تتصدرها نافذة زجاجية صغيرة غبّرها تراب الزمن، تتراقص من خلفها أضواء المدينة من بعيد باهتة محتضرة.
وبينما هو يشعل شمعا أخرجه من جيبه لينير المكان، كانت هي تتجه لتلك النافذة تزيل عن زجاجها التراب وتنظر لما وراءها ثم تقول بشرود :
– المنظر من هنا خلاب!
وإذ به يهجم عليها كعاصفة هوجاء إلا إنها باغتته بالتفافها وقد أسقطت حقيبة يدها بعد أن أخرجت منها بخاخة صغيرة، وأخذت تبخ منها على وجهه رذاذا شعر على إثره به يحترق؛ فتعالى صراخه بينما أعقبتها بوخز عنقه بحقنة صغيرة وتركتها معلقة بها، وأخذت تتأمله بهدوء وهو يصرخ ويجمح في المكان بجنون وعشوائية من شدة الألم ، مغطيا وجهه بلا تفكير بكلتا يديه؛ فاحترقا جلدهما أيضا والتصاقا بجلد وجهه الذائب، ثم تصلّب فجأة وسقط أرضا عاجزا عن الحركة.
جثت بجواره، وأزاحت يديه المتصلبتين عن وجهه بصعوبة، منتزعة أغلب جلد وجهه الذائب معهما، فاختلط المتبقي من الجلد بالدم مغطيا وجهه المسلوخ.
أخذت تتأمل تشوهه وتتأكد من بشاعته، ثم اقتربت من أذنه هامسة:
-أ ولم يكن بيننا أتفاق؟
ورفعت رأسها لتنظر في عينيه وهي تقول:
– ولكن منذ متى وأنت تحترم أي أتفاق أو تفي بأي وعد؟!
ثم نهضت من جانبه لتجلب من حقيبتها
زجاجة صغيرة حرصت على سكب كل ما فيها من سائل على الجسد المسجى أمامها بلا حراك إلا من مقلتين زاد جحوظهما عندما بلغت رائحة السائل النفاذة إلى أنفه، بينما هي تقول بهدوء :
– وبما إنني دمرت مسبقا مصدر فخرك وغوايتك فأظنك لن تمانع!
ثم حملت شمعة مما يُضيء المكان ووضعته بتروي بجانبها، وهي تعود لتجلس إلى جواره، ترقب الهلع يفيض من عينيه ليغرق ملامحه، لكنها شردت برهة لتقول من خلال شرودها بنبرة حزينة:
– لا تدّعي إنك لم تتذكرها !
ثم عادت لواقعها بابتسامة باهتة لا تخلو من مرارة :
– من كان يصدق أن تكون نهايتك على يد ابنتك، يا أبي !
وجمت عيناه غير مصدق ثم نظر إليها لتومئ برأسها عدة مرات مؤكدة له صحة ما بلغ أذنه، ثم تتابع بقسوة:
– و الآن، وداعا!
وفي لمح البصر ألقت عليه الشمعة وابتعدت عنه، لتلتهم النار جسده بينما يعجز هو حتى عن الصراخ.
انتظرت حتى أنهت النار عملها، وصارت دخانا يتصاعد وتتصاعد معه بتؤده أشعة الشمس الأولى تبدد ظلام الليل، وتنبهها إلى بداية يوم جديد.
توجهت إلى النافذة لتستقبل بوجوم وجه المدينة الغافل تداعبه غبشة الفجر، وهي تهمس لنفسها بصوت رتيب :
– حقا المنظر من هنا خلاب، يا أمي!

قد يعجبك ايضا
تعليقات