القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

العادة والعبادة ” الجزء السابع “

102

إعداد / محمـــد الدكـــرورى

ونكمل الجزء السابع مع العادة والعبادة، وإن الصوم يقطع أسباب التعبد لغير الله، ويورث الحرية من الرق للمشتبهات لأن المراد من الحرية أن يملك الأشياء ولا تملكه، وهل يفعل الصيام بنا هذا؟ بل إن الله عز وجل أمرنا بالصيام من أجل التقوى، فإذا لم يحدث الصيام للإنسان تلك التقوى، فإنه لم يحقق الغرض الذى شرعه الله من أجله، ولكن ما السبب في عدم إحداثه للتقوى في النفوس؟ والأسباب كثيرة، وأعظمها أن الصيام وهو عبادة من العبادات، أصبح عند كثير من الناس مجرد عادة، يدخل الإنسان فيه دون أن يستحضر نية التقرب لله عز وجل بهذه العبادة، وفي أثناء الصوم ترى قلبه غافلا لاهيا عن التذكر والتفكر في هذه العبادة العظيمة، وفي المقابل انظر إلى ذلك الرجل الذي قام من أجل السحور، تذكر أنه يأكل هذه الأكلة من أجل أن يتقوى على الصيام الذي يتقرب به إلى الله عز وجل، وفي أثناء صومه وكلما تذكر الطعام أو الشراب أو غيرهما من المحظورات، حدث نفسه وعالج قلبه بأنه إنما يفعل ذلك حبّا وتقربا إلى الله تعالى.

حتى يأتي يوم القيامة وقد وضع في ميزان أعماله صيام ذلك اليوم، ثم إذا أفطر فرح بهذا الإفطار وانتظر فرحه الآخر بهذا الصوم حين يلقى ربه عز وجل، فقلبه أثناء الصوم أو في أغلبه منشغل بالتعبد لله عز وجل، فهذا هو الصيام الذي رتب الله عليه ذلك الأجر العظيم، وهذا هو الصيام الذي يعالج النفس والقلب من أمراضها وأدرانها، ولنضرب مثالا أخيرا، لنتفكر في عبادة الذكر، ذكر الله عز وجل، ثم لننظر إلى عظيم الجزاء والأجر الذي أعده الله للذاكرين الله كثيرا والذاكرات، ويكفي في التمثيل بهذا الأجر حديث أبي الدرداء عند الحاكم “ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والوَرق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم” فهذه هي قيمة الذكر الصادق والجزاء الكبير من الله تعالى للذاكرين، وليس الذكر هو الدعاوى الفارغة التي يؤديها بعض الناس من المكاء والتصدية والرقص ويزعمون أنها ذكر، إذن لابد أن الأمر ليس بهذه السهولة أو البساطة.

لابد من أن تحقق معاني العبودية لله عز وجل في عبادة الذكر ربما أكثر منه في تلك العبادات الأخرى، ولايمكن أن يكون الذكر مجرد حركات سهلة باللسان ليس لها أي أثر على القلب ومن ثم على كيان صاحبها وواقعه، فإن الذي يقول لا إله إلا الله يرددها لسانه وقلبه مستحضرا للمعنى المراد من هذه الكلمة وهو الاقرار بالعبودية الخالصة لله وحده، الذي يقولها بهذه الصورة يحدث في قلبه وكيانه انخلاع من عبودية ما سوى الله، ثم تنجذب روحه إلى السماء، إلى الله تبارك وتعالى محبة واتباعا، وهل يتصور أن من يحدث له ذلك يطيع ما سوى الله في صغيرة أو كبيرة، أم يتبع هواه أو شهوته، أم يقع في قلبه خوف أو وجل من تلك الآلهة المزعومة، أو أي حب لها، وهل يتصور أن من تتوق روحه إلى الله، فيملأ حب الله شغاف قلبه ويتغلغل في جوانحه، هل له أن يعصيه، أو يتوانى في طاعته والتقرب إليه والتذلل بين يديه، لايتصور ذلك قطعا، فلأجل هذا كانت هذه الكلمة نجاة لصاحبها، إذا لم تصدر منه باللسان فقط.

بل صاحبها حضور القلب وانقياد النفس، وذلك لايكون إلا بمعرفة معناها، ومن ثم تأتي شروطها الباقية، ومن هنا أيضا كان من حقق كلمة التوحيد تحقيقا كاملا، يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، لأن من حققها بتلك الصورة، فإنه ولاريب يطيع ربه عز وجل طاعة لا يمكن معها أن تتجاوز سيئاته حسناته، فمن ثم يدخل الجنة بتلك الصورة المذكورة في الحديث، وتأمل قول الله عز وجل ” إن فى خلق السماوات والأرض وإختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب” فمن أولئك؟ فقال تعالى ” الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم” فلهذا كان من صفاتهم كما قال تعالى ” ويتفكرون فى خلق السموات والأرض” فتكون النتيجة أنهم يتوجهون إلى الله بالدعاء وهو من أعلى وأجل صور العبادة، وقد ملأ خوف الله قلوبهم فشعروا بحاجتهم إلى مغفرة خالقهم وعفوه، فقالوا ” ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار” فالذكر يكون بالقلب قبل أن يكون مجرد نطق باللسان، وذكر القلب هذا يحدث في القلب والنفس والعقل.

من أسرار العبودية وأحوالها ما يجعل القلب مراقبا لله عز وجل، طيلة ذكره لله، وتلك أعلى مراتب العبودية، إنها مرتبة الإحسان، أى أن تعبد الله كأنك تراه، والمحسن هو المراقب لله في كل حين ووقت، في كل خاطرة وسانحة يبحث عن مرضاة الله في كل فعلة وقولة، بل في كل إرادة أو التفاتة تحدث من قلبه، فخلاصة ما تقدم بعبارة سريعة مختصرة وهى أن حقيقة الإيمان التي أمرنا بها أن تتواطأ عبادة القلب مع عبادة الجوارح، فتتحقق عبودية القلب مع عبودية الجوارح، فنحسن العبادة باطناً كما نحسنها ظاهرا، فإذا تبينت أهمية ما تقدم، فلسائل أن يسأل ما هي الوسائل التي تقود إلى إحسان العبادة باطنا، أو بعبارة أخرى كيف نبعث الروح في عبادتنا، ونجنبها الموت؟ وهو أن الوسائل كثيرة ومتنوعة، فمنها هو حضور القلب قبل أو عند البدء بالعبادة، والفقهاء يتحدثون عن النية قبل الشروع في العمل ويعنون بها النية التي تميز العمل نفسه، كصلاة الظهر عن صلاة العصر، وصوم النافلة عن صوم الفرض، وما إلى ذلك.

قد يعجبك ايضا
تعليقات