القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

على شفا قُبلة

104

كتب/ أحمد النحاس
لم يكن اللقاء بعيدًا، كنا على شفا قُبلة هار فتحولت إلى كذبة بلا لون، كانت هنا، دائمًا هنا تحرك بأطراف أصابعها الناعمة أمواجي وسفني وعرائس أفكاري الملونة، كنت محظوظًا بها وطالما كان حظي سيئًا، معها كنت أشعر بأنني أركض خلف شيء ما جميل، شعور صافٍ جدير بالمطاردة، كنت أراها وأدعو، تغيب وأدعو، تأتِ وأدعو، تذهب وأدعو، جعلتني ملازمًا للدعاء، كانت مصباحي في الليالي الأكثر عتمة حتى أمست عتمتي.
كنت أعرف أنني ذات يوم سأتكور على نفسي وأبكِ غيابها، إلا أنني تمردت على وساوسي المزعجة وقررت السير وحدي في أزقتها المشرقة، مشيت كثيرًا، ركضت، سافرت فيها ولا وصول، أبدًا لم أصل إلا قليلًا، ربما مرة أو مرتين وحينما بدا اللقاء وشيكًا تمردت على نفسها وغابت، تركتني كبيت وحيد تتألم نوافذه وتشتكي الصور العالقة على جدرانه من البرد والكآبة والملل، تركتني كبيت تحول من كونه دافئًا بمن فيه إلى كابينة اتصال منسية مقطوعة الحرارة بشارع جانبي لا يتسكع فيه سوى القطط الضالة وكلاب الشوارع وبعض الحمقى.
غابت حد انقطاع النفس وأتت، وقفت على عتبتي كشجرة عملاقة عارية تمامًا من الشوق، أعرفها جيدًا حينما تخفي حنينها وحزنها، كانت تخبئ خلف جذعها القوي هشاشة العالم ويأس العالمين، تخفي تحت ظلالها التي امتدت لتنالني الكثير من الحزن والكثير من الشوق والكثير من الحب، لم تبتسم هذه المرة وقالت بصوت مرهق متقطع: تعبت من الهرب وكذلك تعبت من الحضور، رجاءً دعني أتأقلم مع الواقع.
قلت: حسنًا، كما تريد الشجرة.
تركتها ترحل في هدوء ونسيت أن أنساها، اعتدت غيابها وبدأت التدرب على صوتها الذي طالما اقتحم ضجيجي بلا استئذان فأجبرني على الصمت.
استغرق الأمر وقتًا حتى أتخلص من كوني مُراقَبٌ، كأن الكون كله عيونها، جهازي اللوحي، هاتفي، الكتب القديمة على رفوف المكتبة، الأقلام، الجوارب، اللافتات، أعمدة الإنارة، النجوم وعيناي.
الآن وبعد رسائل لم تُرسل تخطى عددها ما أحصيته آخر مرة توقفت عن الكتابة، توقفت عن الشعور، توقفت عن مطاردة أخر فراشة طارت من فمها وقتما قابلتني ذات لقاء بابتسام، توقفت عن رفاهية التحدث عنها، توقفت عن لعب الدور الأساسي في قصتي واكتفيت بالمشاهدة، توقفت عن ممارسة أشياء كثيرة إلا أنني لم أتوقف أبدًا عن حبها.

قد يعجبك ايضا
تعليقات