القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

أويس القرنى..رضى الله عنه

96

بقلم د /محمد بركات

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

فإن بر الوالدين من أعظم الأعمال عبادة وقربة لله تعالي ، وهو مما أقرته الفطر السوية، واتفقت عليه الشرائع السماوية، وهو دأب وشأن وخلق الأنبياء والمرسلين وهو دأب الصالحين ، كما أنه دليل على صدق الإيمان، وكرم النفس، وحسن الوفاء .

وبر الوالدين من محاسن الشريعة الإسلامية؛ ذلك أنه اعتراف بالجميل ولا يعرفه إلا كل أصيل ، وحفظ للفضل، وعنوان على كمال الشريعة، وإحاطتها بكافة الحقوق بخلاف الشرائع الأرضية التي لا تعرف للوالدين فضلا، ولا ترعى لهما حقا، بل إنها تتنكر لهما، وتزري بهما.

وإن من حق الوالدين الاحسان اليهما في الإسلام يأتي بعد العبادة ونفي الشرك عن الخالق حيث يقول تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا اياه وبالوالدين إحسانا) ، بل إن الإسلام نهى عن العقوق، وقد حذر منه أشد التحذير، فهو كبيرة من الكبائر، وهو قرين للشرك ويكفي في ذلك قوله تعالى: «فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا» (سورة الإسراء ، الآية :23) . فما بالك بما فوق كلمة “أف”. وهذا ما جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس.

وها هو أويس القرني رضي الله عنه المثال الواضح في بر الأم ، هو أويس بن عامر بن مالك، هو عالم وزاهد وورع، كانت له أم كان بارا بها كأبر الرجال بأمهاتهم،

وهو أويس بن عامر بن جزء بن مالك المرادي ثم القرني الزاهد المشهور. أدرك رسول الله ولم يره وسكن الكوفة وهو من كبار تابعيها، ومن أفضل التابعين، على خلاف، قال أحمد: هو سعيد بن المسيب،
وقيل: هو أويس القرني،
وقيل: الحسن البصري
والصواب: أويس لما في صحيح مسلم: أن خير التابعين رجل يقال له: “أويس” وبعضهم قال: الأعلم ابن المسيب، والأزهد والعابد: أويس.

وقد عاش أويس بن عامر رضي الله عنه في اليمن، وانتقل إلى الكوفة، وكان مع سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه في صفين وبها لقي الله شهيدًا.

وقد روى أويس بن عامر عن عمر وعلي، وتعلم على يد كثير من الصحابة ونهل من علمهم حتى صار من أئمة التابعين زهدًا وورعًا، ولقد تعلم منه خلق كثير، تعلموا منه بره بأمه، وتواضعه لربه رغم ما ورد في فضله من أحاديث، ورغم ما ذكره به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.

، وروى عنه بشير بن عمرو وعبد الرحمن بن أبي ليلى ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة وقال كان ثقة وذكره البخاري فقال في إسناده نظر وقال ابن عدي ليس له رواية لكن كان مالك ينكر وجوده إلا أن شهرته وشهرة أخباره لا تسع أحدا أن يشك فيه.

ولأويس القرني رضي الله عنه مكانة عظيمة يعرفها الصحابة رضوان الله عليهم لما سمعوه من النبي ﷺ، ولقد أفرد الإمام مسلم في صحيحه بابًا من فضائل أويس القرني رضي الله عنه.

، وروى مسلم بسنده عن أسير بن جابر قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم أفيكم أويس بن عامر حتى أتى على أويس فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم قال: لك والدة؟ قال: نعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره؛ فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل؛ فاستغفر لي فاستغفر له، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي قال: فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم فوافق عمر فسأله عن أويس قال: تركته رث البيت قليل المتاع قال: سمعت رسول الله r يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل فأتى أويسًا فقال: استغفر لي قال: أنت أحدث عهدًا بسفر صالح فاستغفر لي قال: استغفر لي قال: أنت أحدث عهدا بسفر صالح فاستغفر لي قال: لقيت عمر قال: نعم فاستغفر له ففطن له الناس فانطلق على وجهه قال أسير وكسوته بردة فكان كلما رآه إنسان قال: من أين لأويس هذه البردة.

كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يستقبل الوفود الآتيةَ من أهل اليمن، فكان كلّما جاءه نفرٌ منهم سألهم عن رجلٍ اسمه أويس القرني فيقول: “أفيكم أويس بن عامر”.[محمد نصر الدين محمد عويضة، فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب، صفحة 621]

تري لماذا كان يبحث عمر بن الخطاب عن أويس القرني؟ فقد كان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، قد سمع من النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- حديثًّا بشأن هذا التّابعيّ، حيث يقول عمر في الحديث الصّحيح: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “يَأْتي علَيْكُم أُوَيْسُ بنُ عَامِرٍ مع أَمْدَادِ أَهْلِ اليَمَنِ، مِن مُرَادٍ، ثُمَّ مِن قَرَنٍ، كانَ به بَرَصٌ فَبَرَأَ منه إلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، له وَالِدَةٌ هو بهَا بَرٌّ، لو أَقْسَمَ علَى اللهِ لأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لكَ فَافْعَلْ”،
[رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عمر بن الخطاب ، الرقم:2542 ، وهو حديث صحيح] وكان هذا الحديث سبب في أنّ عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- أراد ملاقاة أويس بن عامر القرني.[ابن الجوزي، صفة الصفوة، صفحة 25]

لكن ما الحديث الذي دار بين أويس القرني وعمر بن الخطّاب رضي الله عنهما؟
لمّا وجد عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- أويس بن عامر القرنيّ في وفدٍ من الوفود الآتية من اليمن تأكّدَ من صفته التي أخبره بها رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- فسأله عن نسبه، فكان هو النّسبُ الذي أخبره به النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- ثمّ سأله عن برصٍ كان فيه ثمّ عافاه الله منه إلّا موضعَ درهم، فكان كذلك فعلًا، ثمّ سأله عن والدته فكان هو هو، فلمّا تأكّد من أنّ أويس الذي أمامه هو ذاته أويس الذي أوصى النّبيّ به أخبره بحديث رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- الذي فيه أنّ أويسًا لو أقسم على الله لأبرّه، ثم قال له عمر: “استغفر لي” فاستغفر له.[ محمد الأمين الهرري، الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم، صفحة 237]

فسأل عمر -رضي الله عنه- أويسَ عن مُراده، فأجابه بأنّه يريد الكوفة، فأراد عمرُ أن يكتبَ إلى عامله على الكوفة ليُكرم مثوى أويس، فقال أويس: “أكون في غبراء الناس أحب إليّ”، فذهب أويس إلى الكوفة ليسكنها، فلمّا جاء العام المقبل سأل عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- رجلُا يطلب الحج من الكوفة عن أويس، فأجابَه أنّ أويسًا يسكن بيتًا رثّ الحال قليل المتاع، فأخبرَ عمرُ الرّجلَ بحديث النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في أويس، فلمّا عاد الرّجل إلى الكوفةِ ذهب إلى أويس وطلب منه أن يستغفر له وألحّ عليه في ذلك حتّى فعل، ثمّ اشتهر حديث النّبيّ فيه بين النّاس.

ومما بستفاد من قصة أويس القرني مع عمر بن الخطاب يحسُنُ بالمسلم أن يتّعظَ بقصص السّالفين، ففي كلّ حادثةٍ له عبر وفوائد، ومن ذلك في قصّة أويس رضي الله عنه :
إدراك أنّ جهلَ النّاسِ لإنسانٍ في الدّنيا لا يعني إلّا جهلهم إيّاه في الدّنيا، فكم من مجهولٍ في الأرض معروفٍ في السّماء وهذا بين واضح في قصة أويس القرني رضي الله عنه.

ومنها تصحيح رؤيةِ الإنسان المسلم للدنيا، وتعاطيه مع ملذّاتها، فذاك أويسٌ رفضَ ما يراه أهل الدّنيا محمودًا من عطاء السّلطان والقرب من الوالي؛ لأنّه أدركَ حقيقةَ الدّنيا وأنّ الآخرة خير له وأبقى.

ومنها إظهار حاجة المسلمِ إلى الغفران مهما بلغ عمله وعلمه، وعدم الاتّكال إلى العمل، فذاك عمر بن الخطّاب خليفة المسلمين -رضي الله عنه- يطلبُ من رجلٍ أقلّ منه خدمةً لدين الله أن يستغفر له

وقد نَادَى رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ يَوْمَ صِفِّينَ: فقال: أَفِيكُمْ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ، قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يقول: “إِنَّ مِنْ خَيْرِ التَّابِعِينَ أُوَيْسًا الْقَرَنِيَّ”.

وكان أويس صالحا من أهل الله فلكل من يريد الوصول إلى الله طريقًا يلتمس فيه القرب من الله، وما يميزه عن غيره، فالبعض اتخذ قيام الليل وسيلة القرب إلى الله، والبعض الآخر اتخذ الاستغفار بالأسحار الطريق الذي ينتهي به إلى حب الله، والبعض اتخذ التفكر وسيلة القرب من الله .

،ولم يكن أويس القرني رضي الله عنه كعامة الناس يحيا ولا يفكر إلا في طعامه وشرابه؛ لكنه فهم حقيقة هذه الدنيا، وأدان نفسه وعمل لما بعد الموت، وكان يغلب على أويس القرني التفكر في مخلوقات الله لتنتهي به إلى حب خالقها، ولما قدم هرم بن حيان الكوفة سأل عن أويس القرني فقيل له: هو يألف موضعًا من الفرات يقال له: العريض بين الجسر والعاقل ومن صفته كذا فمضى هرم حتى وقف عليه فإذا هو جالس ينظر إلى الماء ويفكر وكانت عبادة أويس الفكرة.

وقد انعكست عبادة أويس القرني رضي الله عنه على سلوكه الطيب الذي عرف به ، مما أثر إيجابًا في الآخرين، فقد كان التأثير بسلوكه أكثر منه بقوله، فهو المتواضع لربه، البار بأمه، ومع ذلك فكان دائم النصح والتوجيه للآخرين، قائمًا بالحق رغم معادة الآخرين له ورميه بعظائم الأمور إلا أن ذلك لم يمنعه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

، ومما يروى في هذا الصدد والمجال أن رجلاً من “مراد” جاءه وقال له: السلام عليكم قال: وعليكم قال: كيف أنت يا أويس؟ قال: بخير نحمد الله قال: كيف الزمان عليكم؟ قال: ما تسأل رجلا إذا أمسى لم ير أنه يصبح، وإذا أصبح لم ير أنه يمسي، يا أخا مراد، إن الموت لم يُبق لمؤمن فرحًا يا أخا مراد، إن معرفة المؤمن بحقوق الله لم تبق له فضة وذهبًا، يا أخا مراد، إن قيام المؤمن بأمر الله لم يُبق له صديقًا والله إنا لنأمرهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر فيتخذونا أعداءً ويجدون على ذلك من الفساق أعوانًا حتى والله لقد رموني بالعظائم، وأيم الله لا يمنعني ذلك أن أقوم لله بالحق..

ولما طلب منه هرم بن حيان أن يوصيه قال له: قرأ عليه آيات من آخر حم الدخان من قوله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [سورة الدخان، الآية :40] حتى ختمها ثم قال له: يا هرم، احذر ليلة صبيحتها القيامة ولا تفارق الجماعة فتفارق دينك ما زاده عليه..

وكان يخاطب أهل الكوفة قائلاً لهم: يا أهل الكوفة توسدوا الموت إذا نمتم، واجعلوه نصب أعينكم إذا قمتم.

وكان من شيمته وخلقه رضي الله عنه العفو وصاحب العفو قلبه مليء بالخير فقد عاش أويس القرني رضي الله عنه بين الناس وهم يرمونه بالحجر فلا يجدون منه إلا أطيب الثمر، وكان يد الأذى تناله إلا أنه كان دائمًا ما يعفو ويصفح، وكان يجالسهم ويحدثهم رغم ما يصيبه من أذى ألسنتهم .

ويقول أسير بن جابر: كان محدث يتحدث بالكوفة فإذا فرغ من حديثه تفرقوا ويبقى رهط فيهم رجل يتكلم بكلام لا أسمع أحدًا يتكلم بكلامه فأحببته؛ ففقدته فقلت لأصحابي: هل تعرفون رجلاً كان يجالسنا كذا وكذا؟ فقال رجل من القوم: نعم أنا أعرفه؛ ذاك أويس القرني قلت: أو تعرف منزله قال: نعم فانطلقت معه حتى جئت حجرته فخرج إلي فقلت: يا أخي ما حبسك عنا فقال: العري. قال: وكان أصحابه يسخرون منه ويؤذونه قال: قلت: خذ هذا البرد فالبسه قال: لا تفعل فإنهم يؤذونني قال: فلم أزل به حتى لبسه فخرج عليهم فقالوا: من ترى خدع عن برده هذا فجاء فوضعه وقال: قد ترى فأتيت المجلس فقلت: ما تريدون من هذا الرجل قد آذيتموه الرجل يعرى مرة ويكتسي مرة وأخذتهم بلساني..

وفاة أويس القرني رضي الله عنه : عندما خرج أويس القرني مع سيدنا علي رضي الله عنه في موقعة صفين، وتمنى الشهادة ودعا الله قائلاً: اللهم ارزقني شهادة توجب لي الحياة والرزق. وقاتل بين يدي سيدنا علي حتى استشهد فنظروا فإذا عليه نيف وأربعون جراحة، وكان ذلك سنة 37 هـ في وقعة صفين.

ينظر ترجمته رضي الله عنه في:
أسد الغابة، تاريخ دمشق، صحيح مسلم،الثقات للعجلي
لسان الميزان ، الطبقات الكبرى، مسند الإمام أحمد،
مشاهير علماء الأمصار، الإصابة في تمييز الصحابة.

رحم الله أويس القرني العبد الصالح البار بأمه.

قد يعجبك ايضا
تعليقات