وقصص البر لم تنته بعد

 

بقلم د/ محمد بركات

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

 

فمما ورد عن السلف رضوان الله عليهم فيما يتعلق ببر الوالدين وصلة الأرحام ما جاء عن محمد بن المنكدر -ومحمد بن المنكدر -رحمه الله- من أئمة التابعين، وهو ابن خال أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنه كان يضع خده على الأرض، ثم يقول لأمه: قومي ضعي قدمك على خدي[الطبقات الكبرى ص: 191] وهو الإمام العابد رحمه الله.

 

ويقول محمد بن المنكدر رضي الله عنه : بات أخي يصلي، وإخوان محمد: واحد يقال له: أبو بكر، وواحد آخر اسمه عمر، يقول: بات أخي يصلي وبت أغمز قدم أمي، يقول: وما أحب أن ليلتي بليلته، يعني: صنيعه بأمه هذا يفضل عنده قيام الليل.

 

وجاء عن أبي بكر بن عياش رضي الله عنه -وهو أحد أئمة السنة- أنه قال: كنت مع منصور بن المعتمر جالساً في بيته، -ومنصور بن المعتمر إمام- فتصيح به أمه وكانت فظة عليه، شديدة غليظة، تصيح عليه، فتقول: يا منصور يريدك ابن هبيرة على القضاء فتأبى؟[تاريخ الإسلام للذهبي، 8/ 548]

تقول: لماذا ترفض القضاء؟ والسلف كانوا يتحرجون من هذا؛ لأن النبي ﷺ قال: قاضيان في النار وقاضٍ في الجنة.

[أخرجه الترمذي، أبواب الأحكام عن رسول الله -ﷺ، باب ما جاء عن رسول الله ﷺ في القاضي، (3/ 605)، برقم: (1322)، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب آداب القاضي، باب ما على القاضي في الخصوم والشهود، (10/ 199)، برقم: (20355)، وصححه الألباني، في صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 819)، برقم: (4447)].

، وهو واضع لحيته على صدره ما يرفع طرْفه إليها.

 

ما رد عليها ولا غضب، ولا قال: أحرجتيني بالرجل، وما قال لها: أنت ما تعرفين هذه الأشياء أصلاً، وما شأنك بها.

 

وكان كَهْمس بن الحسن التميمي رضي الله عنه برًّا بأمه، فلما ماتت حج وأقام بمكة حتى مات، قيل: إنه أراد قتل عقرب -هذا من بره بأمه- أراد قتل عقرب فدخلت في جحر، فأدخل أصبعه خلفها ليخرجها فضربته العقرب، فقيل له: لماذا فعلت هذا؟ قال: خفت أن تخرج فتجيء إلى أمي تلدغها[سير أعلام النبلاء (6/ 317)].

 

وجاء عن إبراهيم بن هاشم رضي الله عنه أنه قال: لما نزل جرير بن عبد الحميد الكوفي ببغداد على ابن المسيب، فلما عبر إلى الجانب الشرقي جاء المد -يعني: النهر- فقلت لأحمد بن حنبل: تعبر؟ فقال: أمي لا تدعني، أمي ما تسمح لي أني أعبر النهر في حالة المد، الإمام أحمد أمه ما تسمح، فجلس، يقول: فعبرت أنا، مع أنه كان في غاية الحرص من أجل أن يصاحب هذا الإمام، ويكتب عنه الحديث ونحو ذلك، لكن وقف عند رغبة أمه[تاريخ بغداد وذيوله (7/ 266)].

 

وهذا جعفر الخَلَدي يقول: كان الأبّار من أزهد الناس، استأذن أمه في الرحلة إلى قتيبة، يعني: الرحلة لكتابة الحديث، لطلب العلم، فلم تأذن له فجلس، ثم ماتت فخرج إلى خراسان، ثم وصل بلخ وقد مات قتيبة الذي كان يريد أن يذهب إليه ليكتب عنه الحديث، فكانوا يعزونه على هذا، فقال: هذه ثمرة العلم، إني اخترت رضا الوالدة، يعني العلم يدعو للعمل، أتعلم لماذا؟، وأكتب الحديث لماذا؟ من أجل أن أطبق.

[تذكرة الحفاظ، للذهبي 2/ 157]

 

وجاء من كلام محمد وهو الحكيم الترمذي رضي الله عنه: ليس في الدنيا حمل أثقل من البِّر، فمَن برّك فقد أوثقك، ومن جفاك فقد أطلقك[سير أعلام النبلاء (10/ 466)].

 

يعني: من برّك يكون قد أسرك ببره، ومن جفاك فقد أطلقك، لا يكون له إحسان وفضل عليك.

 

ويقول الحسن بن سفيان رضي الله عنه: إنما فاتني يحيى بن يحيى، هذا أيضاً من أئمة السنة، يقول: إنما فاتني يحيى بن يحيى بالوالدة لم تدعني أخرج إليه، قال: فعوضني الله بأبي خالد الفراء.

[تاريخ دمشق لابن عساكر (13/ 102)].

 

وأخبارهم في هذا كثيرة، أبو حنيفة -رحمه الله- يعني كما قيل: أزهد الناس في العالِم أهلُه، أبو حنيفة أمه كانت تأمره أن يذهب بها إلى فقيه من أجل أن تستفتيه، فكان يأخذ بيدها ويذهب بها إليه، بل إلى واعظ وليس إلى فقيه من أجل أن تسأله، فيأخذ بيدها برًّا بها ويذهب إلى هذا الواعظ من أجل أن تسأله[تاريخ بغداد وذيوله (13/ 363)].

 

وآخر كان إذا جلس مع تلامذته وكذا خرجت إليه أمه وقالت: أطعم الدجاج، فيقوم ويترك تلامذته ويذهب ويطعم الدجاج، هكذا كانت أخلاقهم، وهكذا كانت تربيتهم، وهكذا كان العلم دليلاً لهم على العمل، ومرضاة الله .

 

وجاء من شعر الإمام الطرطوشي المالكي وهو العالم رحمه الله ورضي عنه:

 

لو كان يدري الابنُ أيّة غصَّةٍ

يتجرع الأبوانِ عند فراقه

أمٌّ تهيم بوَجدِه حيرانة

وأبٌ يَسحُّ الدمع من آماقه

يتجرعان لبيْنه غُصص الرَّدى

ويبوحُ ما كتماه من أشواقه

لرثا لأم سُلَّ من أحشائها

وبكى لشيخٍ هام في آفاقه

ولبدَّل الخُلقَ الأبيَّ بعطفه

وجزاهما بالعَذبِ من أخلاقه

 

وهذا الإمام ابن عساكر رحمه الله و رضى عنه صاحب التاريخ الكبير المعروف لما سئل: لماذا تأخرت عن الرحلة إلى أصبهان من أجل كتابة العلم؟

قال: استأذنت أمي في الرحلة فما أذنت لي، ما غضب عليها، ونفض يده في وجهها، وتركها، واليوم الواحد يسافر مع أصدقائه حتى لربما ما يستأذن ولا يخبر والديه، ولربما زجرهما غاية الزجر، أمه تتوسل، أمه كذا.

.

 

فعلي المسلم أن يراجع نفسه ويرجع إلى نفسه وينظر ويفكر هل هو بار فعلاً، ماذا قدم لأبويه، كيف تعامله معهم، هل يحقق رغبة الوالدين، هل نفوسهم طيبة تجاهه، إذا منعاه من شيء ما هو موقفه؟، إذا عاتباه، إذا ذكر الوالد أو الوالدة رأياً يخالف رأيه أو سمع منهما شيئاً لا يعجبه، أحياناً يتكلم الأب عن شيء، أو الأم مسكينة، قد يتكلمان عن أمور قد لا يكون لهم بها معرفة، لكن دائماً: لو أنك ذهبت إلى البلد الفلاني، ما ذهبت إلى البلد الفلاني، لو أنك بنيت الأرض الفلانية، ما بنيت الأرض الفلانية، لو أنك وسعت المكان الفلاني وكذا، ودائماً يعاد هذا الكلام أحياناً فيضجر، ولربما يرد برد فيه تذمر أو نحو هذا، إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة المتكررة التي تحصل للناس، ويحصل بسببها شيء من التعنيف أو الرد الغليظ،

فبرك هو ما تخبئه لك الأيام من أولادك وأحفادك وتلامذتك وطلابك.

 

اللهم اجعلنا من البارين المؤمنين حق الإيمان بك يا أرحم الراحمين.

وقصص البر لم تنته بعد
Comments (0)
Add Comment