بقلم محمود أمين
ومن عجيب أنه لم ينس قلبه!.. فالمرض لا يمحو الحب، ربما لم يعد يضطرب به دمه، ولكنه يحسه بروحه ويخفق به قلبه.. ولكم ترف عليه الذكريات فتضيء مخيلته بنور وهّاج، وتدندن أذنيه كسجع الألحان، فيستيقظ قلبه كزهرة نفخ الربيع فيها من روحه، وتتخايل لعينيه بروق البسمات، وتطن في مسمعيه العهود والمواثيق. ترى ما مصير كل أولئك؟.. ماذا يخبئ له الغيب؟
هكذا سولت لنفس نجيب محفوظ أن يظهر لنا حديث النفس الذي انطلق حول شخصية رشدي عاكف في رواية خان الخليلي نابه الفكر، رشيق العبارة والمفردات والتراكيب، تراه يولد معنى من معنى، ويستخرج حدث من حدث في انسيابية لا مثيل لها، والمعاني طوع إشارته والكلمات تأتلف وتتأنق في ثوب جديد، والأحداث تبهر عينيك من شدة ما أسرف الكاتب في توضيحها؛ فقد كان يُخيل إليّ أنه يغرس النبتة ثم يصبر عليها فيسقيها ويرعاها فتُفلحُ وتُورق مخضرةً فتزهر ومن بعد الزهر الثمر هي المعاني التي تصل إليك وتسير في خفة ودلال.
لم أقرأ لعم نجيب سوى رواية أولاد حارتنا وكنت في سن صغيرة لا يستقيم معها الحكم على الأشياء، وقد دفعت لقراءتها بدافع التشجع للقراءة فحسب، كالطائر يحط على الأشجار يفرد جناحيه هزته الطبيعة وجلبته الخضرة والماء، وانقطعتُ عن الروايات كلها ومنعت لذتها لفكر ترتب في رأسي نحوها؛ أن الرواية تسيطر على القارئ حتى ينتهي منها فتأخذ من وقته ومجهوده ويخرج منها بأقل فائدة، وقد ضعفت الرواية في هذا الزمن لغة وحبكا فزادني هذا نفورا منها وإعراضا عنها، ثم لوح لي القدر بريح طيبة في أحد المكتبات فنظرت إذ برواية تحمل اسم (ثلاثية غرناطة) للأديبة البارعة رضوى عاشور، فتلقفتها يدي كالمحروم وقد قيل له خذ لا حرام عليك ولا ممنوع بعد اليوم، فقرأتها في أيام قليلة وقدر ردت إلى نفسي عظم الرواية في أثرها، ومكوث أصحابها يبادلون أحداثها في لهفة المتوقع الصادق، وما تحمله من عبق التراث قصص الماضي الشائق العذب، فوجدت نفسي أقرأ لنجيب مرة أخرى في حالة عجيبة مبدؤها حي السكاكيني ونهايتها خان الخليلي، وفي النفس ما يعجز الإنسان عن وصفه كحبي لحي الحسين والخان والجمالية والأزهر ودرب الأتراك؛ أذهب كل فترة أنزه نفسي وأخالط الجدران بشغاف قلبي، وأمتع عيني بفخامة الأبنية، وأقول في عجب: الإخلاص أبقى تلك الأبنة، لو لم يتقن ويخلص صناعها وبناؤها لما بقيت إلى اليوم عامرة كالقلوب المؤمنة.
وأنت بين يدي عم نجيب اليوم؛ تجد الكلمات طوع أمره يجسد بها الأحداث فنجدها رأي عين كما يحدث في دار السينما، يعالج الشخصية بحق ويبرز صفاتها النفسية وميولها المزاجية ونزعاتها الفكرية، ولا يقف عند هذا الحد بل يصل حد الرسم الجسماني لشخوص الرواية، فتجد نفسك جالسًا على بساطه السحري ينتقل بك في أرجاء روايته، فيقول لك: هذا أحمد عاكف: «فبدا في اضطراب حركته وقلق مظهره وشذوذ هندامه كهلا متعبا ضيق الصدر تلوح في عينيه نظرة شاردة تغيب بصاحبها عما حوله.. كان يدنو من ختام الأربعين، عسى أن يسترعي الانتباه بنحافة قامته وطولها واضطراب ملابسه اضطرابا يستدر الرثاء. والواقع أن تكسر بنطلونه وانحسار ذراعي الجاكته عن رسغيه، وتلبد العرق على حرف طربوشه، وتقبض القميص ورثاثة رباط الرقبة، وصلعته البيضاوية، ذو رأس صغير مستطيل ينحدر انحدارا خفيفا إلى جبهة تميل إلى الضيق».
وهذه أمه: «فابتسمت المرأة ابتسامة لطيفة دلَّت على أن بلوغها الخامسة والخمسين لم يفقدها كل ما كان لها من دلال أنثوي».
وهذا أبوه: «كان عاكف أفندي في الستين من عمره، وقد أرسل لحية بيضاء أكسبت وجهه النحيل وقارا، وفرض على نفسه عزلة قاسية عقب إحالته إلى المعاش وهو في أواسط العمر ومشرق الآمال، وبدا وكأنه كرس حياته للعبادة وتلاوة القرآن، ولم يكن يفارق البيت إلا فترات متباعدة للتريض المنفرد أو زيارة الأضرحة».
وتلك نوال التي تقطع كبد أحمد عليها صبرا: «عينان نجلاوان ذواتا مقلتين صافيتين وحدقتين عسليتين، وبدتا لغزارة أهدابهما مكحلتين، يقطران خفة وجاذبية، فحركتا مشاعره. وكانت الفتاة تتخطى عتبة الشباب اليافع فلا يمكن أن يجاوز عمرها السادسة عشرة».
فنجيب حاضر حضور شخوصه وكلماته، يحدثك في عنجهية تارة وفي ذهول تارة أخرى، هو القارئ وهو الراوي هو المجرب والمتأمل، فكم من حدث في هذه الرواية تجد نفسك تضطرب له، وكم من طاولة للحظ وضعت تجد نفسك على كرسي تجادل وتحاور عن مذهبك، وكم امرأة مرت فنظرت إليها بفراغ قلبك، وبعين الكاتب أنت في رؤية غير رؤيتك، وأنت في عالم غير عالمك، تسافر وتتحول خيالاتك إلى خيالات الرواية، تفكر بفكرهم وتجزع لحزنهم، وتحمل معهم الآلام والمعضلات التي مروا بها؛ أنت الفرح النشيط الذي هب يوما مبكرا ليلتقي بفتاته التي أحبها وانتظرها ساعات وساعات بين الطرقات وراقب شباك بيتها في حيرة ويأس، وتابع قلبه قلبها أينما ذهبت، أن الراقد ألما وعذابها قد وسدك المرض وجافاك النوم وعزت عليك الأحلام، أنت النابه اليقظ لكل شاردة وواردة على أعتاب الرواية تلقفها بعقلك وتحللها فتأخذ مأخذها من نفسك فإما لحسن وإما لسوء وإما للذة وإما لحسرة.
حياة المرء واحدة لا تزيد، وكل رواية تحمل لهفة أشواق وطعنة ألم وبشارات أفراح وارتقاء نجاحات، فإذا قرأت رواية واحدة أُضيفت لك حياة تلك الأشواق والأفراح والألم والنجاحات، واقرأ لأن حياتك لا تُقاس بالأيام بل تقاس بالتجارب؛ ففي القراءة تجارب وإن كانت مُخترَعة وإن كان مردها رأس أصحابها؛ فهي ثمرة أقوام سهروا الليل لتمحيصها وتجويدها، وأنفقوا أعمارهم وحياتهم في سبيل إنضاجها، وقاوموا النوم متأملين النص هل كمُل واستوى على سوقه أم يحتاج إلى تكثيف وإثراء؟ هل الألفاظ أدت ما أريده من معنى؟ هل الشخوص وأحداثهم على درجة من القبول؟ وضف ما تشاء من هل؛ فلا تأتي على عجل وترحل على عجل، فإن الكتب تستحق منك الهدوء والسكينة وطيب الأخذ، والمتعجل في القراءة كالقابض على الماء؛ فخذها على بركة الله واستعن به ولا تعجز.
رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرية