بقلم الكاتب/ بدر الفرشيشي من قليبية
متابعة عبدالله القطاري من تونس
كنت في الماضي غير البعيد من الكثيرين الذين تشدّهم صور المنازل و البيوت التي انتصبت بعيدا عن الضوضاء و التجمعات السكنية ، و ذلك لما يتّسم به المكان من هدوء و ايقاع خال من غوغاء البشر و صياحهم المزعج ، و ربّما هذا العزوف عن حياة البشر الذي كنت اعتقد انني اؤمن به هو مارسخ في لاوعيي من الروايات و تجارب الكتاب و الادباء الذين فضّلوا حياة الوحدة و العزلة عن عالم الناس و الاكتفاء بالذات في معناها البسيط تحت سقف من القرميد و احتساء قهوة سوداء سكب فيها سواد الليل و دجاه يدب دفؤها في جسدي المرتجف و المتربع على الاريكة الى جانب المدفأة التي تنبعث منها رائحة الخشب المشتعل و قد كانت احب الروائح اليّ لما تستفزه في رأسي من ذكريات اقترنت بها و الى جانبي الايمن هرّي و هو يغط و يسبح في محيطات الاحلام محدثا تلك الاهتزازات الصوتية المحبّبة باعثا في نفسي شيئا من السكينة على وقع المزاريب و هي تنشج و قدّامي نافذة بلورية تحيل النظر على واجهة البحر و قد غطتها كسوة من الضباب المرصّع بقطرات الندى و الحال في الحقيقة انّني لا احب البحر كثيرا و لا يعني لي شيئا مما يعنية للكثير من الناس الذين كان تيمة محورية في كتاباتهم و اقترن وجوده و شيفراته و دلالاته و سيميائياته بعوالمهم الداخلية و ما يخالجهم من اشجان و افراح و مسارات و منعرجات و هدوء و عنفوان امثال حنا مينه و انما علاقتي به جاءت متأخرة فقد زرته في فترة متأخرة بعض الشيء لما فرضه بعد المسافة الجغرفيةبين داخل البلاد و ساحلها كما انّ الظرف المادي للعائلة لعب دوره ايضا و تقتصر هذه العلاقة على بضع ايام صيفية للسباحة و احيانا تتقلص الى بضع سويعات من السنة ، كان هذا الحلم بالنسبة منتهى السعادة وان لم تكن بعض تفاصيله تمسني بالقدر اللازم حتى ادركته و سنحت لي الفرصة ان احظى بفرصة تفصلها عن المخطط الذهني الذي اعددته فويرقات ضئيلة تمثّلت في غياب بعض عناصر الديكور و وجود اخرى لم تخطر ببالي و كانت هذه الفرصة “فيلا” في منأى عن الاحياء السكنية حتى اقرب جار لنا كان بيننا و بينه كيلومترات ، كنّا نستعد بحماس مفرط للانتقال الى المنزل الجديد و كانت الاستعدادات تقتصر على نقل بعض الاشياء البسيطة اللازمة التي تخص افراد العائلة لان المنزل مجهز و مؤثث بما تقتضيه الضرورة كما يوجد به مايزيد عن حاجتنا و يعتبر من تمظهرات الترف .. و ها قد جاء اليوم الموعود و انتقلت العائلة و الحقيقة التي لا اخفيها عنكم و هي جوهر حديثنا انّ الرّحيل كان صعبا جدّا و الامر الاشدّ صعوبة منه هو التأقلم مع الحياة الجديدة التي تقطع مع حياتنا و ايقاعها السالف ، حينها كانت الفرصة التي اتاحتها مقولة الزمن لاكتشف فيها نفسي عارية ، بما اعيه عنها و ملامح اخرى كنت قد استغربتها لم اكن اعرفها و لم اتعرّف الى الكثير منها ، كنت ضائعا لا شيء له معنى سوى انني ايقنت كرهي للبحر و صخب امواجه التي كانت تتلاطم في رأسي محدثة صدوعا مطنبة العمق ،كانت زرقته تأسرني فاضيع بين غياهبها و امواجه تتعاورني بلا رحمة و لا شفقة ، اما عن زبده فقد كنت اشعر انه تراكم اطنانا في فمي و حلقي يخنقني و يمنعني من التنفس كما انّ ملحه قد انساب بدفق من انفي و اغرقني بين اكوامه ، كانت ” الفيلا” اشبه بسجن من نار بيضاء باردة اسواره شاهقة الارتفاع تتراءى لي بين زواياها البيضاء ظلال سوداء رسمت على وجوهها المشوهة ابتسامة ماكرة تنم عن خبث ساكن تحت ذلك السواد القاتم و ما يزيد المأساة عمقا هو تلك الاطلالة على الجحيم الازرق الذي يعجّ بمخلوقات اقرب للعجائبي الغريب باسنان تمتد امام رؤوسها كالمُدى شديدة الحدة تقفز بين البحر و الجو في شكل مشهد كرنفالي صاخب و احيانا اجدها تخرج عن طبيعتها التي تحكم بابدية العيش تحت سطح الماء و تشّكل حلقات مرعبة تطوف حول المنزل تنهش اجزاءً منه تاركة ايانا نحوم في فراغ مبهم بلا معنى ، بلا سقف يحده
في فراغ من وحدة مقيتة انقلب فيها الحلم على الحالم