القاهرية
العالم بين يديك

فضيلة العالم الجليل الشيخ توفيق البتشتي مولده وبعثه إلى الأزهر

196

حاتم الورداني علام

ولد توفيق بن الحاج محمد خليفة فى بلدة أبوتشت محافظة قنا بمصر سنة 1294هـ – سنة 1877م من أبوين عربيين ينتسبان إلى قبيلة الوشيشات إحدى القبائل العربية التى تمتد جذورها إلى قبيلة بنى هلال .

وكان أبوه الحاج محمد خليفة من الأتقياء الصالحين ، صوفى خلوتى ، أخذ العهد على قطب زمانه العارف بالله الشيخ أحمد الشرقاوى بنجع حمادى ، وكان كريماً يؤم داره الغرباء وعابرو السبيل ، يصوم أكثر أيام العام ، ويلازم مسجده الذى بناه بجوار بيته طول الليل راكعاً ساجداً ذاكرا ربه مستغفراً ذنبه .

وقبل ان يتم – فقيدنا – حفظ كتاب الله فى بلده أرسله والده مع أخيه الأكبر ( الشيخ محمود ) – الذى كان يطلب العلم فى الأزهر الشريف – سنة 1308هـ – 1890م وكانت سنه ثلاثة عشر عاما ، فأكمل حفظ القرآن الكريم ، وفى أثناء حفظه لكتاب الله أخذ يتلقى مبادئ العلوم الدينية والعربية .

مدرسوه

منذ استقر الشيخ توفيق البتشتى فى الأزهر أخذ يتخير العلماء الأعلام يستقى من فيض علومهم ويتحلى بكريم أخلاقهم ، ويتأسى بحميد سجاياهم ، فأخذ عن كثير منهم ، ولكنه كان كثير التلقى عن : الشيخ أحمد الرفاعى الفيومى المتوفى سنة 1314هـ – سنة 1896م . والشيخ محمد بن سالم طموم المتوفى سنة 1314هـ – 1896م . والشيخ هارون بن عبدالرزاق البنجاوى المتوفى سنة 1334هـ – 1917م ، والشيخ سليم البشرى المتوفى سنة 1333هـ – 1916م . والشيخ حسونه النواوى المتوفى سنة 1343هـ – 1924م . والشيخ محمد راضى والشيخ أبوالفضل الجيزاوى والشيخ محمد حسنين العدوى وغيرهم من العلماء .

امتحانه فى شهادة العالمية

تقدم الطالب توفيق البتشتى إلى لجنة الامتحان سنة 1326هـ – سنة 1908م المكونة من ستة من كبار العلماء يرأسهم شيخ الأزهر . وحددت له اللجنة اليوم الذى يمتحن فيه شفوياً ، فإن تأخر عن الموعد المحدد يؤجل امتحانه إلى العام المقبل . وقبل الامتحان وصله خبر بأن والديه وأخويه مرضى فسافر ليطمئن عليهم فوجد البلد مضروب عليها كردون عام ، وصدرت التعليميات الطبية بمنع خروج المقيمين منها سواء كانوا مرضى أو أصحاء .

سمع بعض خصومه بأنه مسافر ، وأنه ممنوع من الخروج من بلده فأوعزوا إلى بعض أعضاء اللجنة أن يقدموا موعد امتحانه ، وكان أخوه الأصغر ( الشيخ محمد ) طالباً فى الأزهر ، فبلغه الخبر فاتصل ببعض أساتذة الشيخ توفيق وبعض زملائه ليحبطوا المؤامرة ، وأرسل إلى أخيه يتعجل عودته ، وكان الله رؤوفاً به إذ بلغه الخبر مع انفراج الأزمه وانتهاء الحجر الصحى فى وقت واحد ، وسافر إلى القاهرة ودخل الامتحان فى الموعد المحدد .

وكان من بين أعضاء اللجنة عالم بينه وبين الطالب خصومة شديدة فأخذ يوجه إليه الأسئلة بشئ من العنف ولم يترك فرصة لغيره من الأعضاء ليختبروه ، وظهر أنه يتحداه واستمرت المناقشة ثلاثة أيام كاملة ، كانت كأنها مناظرة بين عالمين . وكان تلاميذ الطالب وزملاؤه يتكاثرون خارج اللجنة فى انتظار ما تسفر عنها هذه المناظرة – فلم تجر العادة قبل ذلك أن استمر طالب يمتحن ثلاثة أيام – ولما انتهت بفوزه ونجاحه سارو به إلى منزله بين تهليل وتكبير .

ويوم امتحن الشيخ توفيق البتشتى فى شهادة العالمية كان الشيخ أحمد نصر عضو لجنة الامتحان ، وجعل يفتش له بهذه الروح الأزهرية القديمة عن العميات والطلاسم ، وأحس بقية أعضاء اللجنة أن زميلهم الشيخ أحمد نصر يريد أن يفترس الطالب فقاوموه ، وكان أن فاز الشيخ توفيق البتشتى بشهادة العالمية ، وعندئذ قال كلمته المشهورة :

( تساوت الرؤس يا أبا نصر … أى أن كليهما أصبح عالما )

ذكر الكاتب الصحفى المرحوم محمد على غريب فى كتابه ( أزهريات ) يقول : ( كان الشيخ توفيق البتشتى – يرحمه الله – من ذوى الأقدار الرفيعه فى محيطنا الأزهرى وهو من بلدة قريبة من بلدتنا ووالدى يعرفه ، فهما أخوان فى الطريق الخلوتى ، أبوهما الروحى فضيلة السيد الجليل أبوالوفا الشرقاوى .

تعيينه مدرساً

بعد نجاحه فى شهادة العالمية عين مدرساً بمرتب كغيره من العلماء ، وازداد تعلق تلاميذه به ، وكان معهم كالوالد مع أبنائه ، يشتد عليهم أثناء إلقاء الدرس وشرحه ، وكانت له طريقته فى التدريس خاصة به ، إذ كانت حصة أخر الأسبوع يخصصها لأى طالب يختاره من بين طلبة الفصل ليعتلى كرسى المدرس ويقوم بشرح الدرس الذى كان على المدرس يشرحه – فقد كان جميع الطلبة يستذكرون الدروس كأنهم مكلفون بالتدريس .

حدثنى المرحوم الشيخ محمد محيى الدين عبدالحميد عميد كلية اللغة العربية جامعة الأزهر بأنه حين كان طالباً فى القسم العالى فى الأزهر كان الشيخ توفيق البتشتى مدرساً له ، قال : وكنت الأول على زملائى ، وكان عدد طلبة الفصل ثلاثين طالباً ، تعهدنا من السنة الأولى فى القسم العالى إلى السنة الرابعة ، الأول فى الفصل هو الاول فى السنة ، والثلاثون فى الفصل هو الثلاثون فى السنة ، وكنا نستذكر دروسنا كما يستذكرها المدرس .

كلفنى يوماً بإلقاء الدرس المقرر إلقاؤه بدلاً منه ، وجلست على كرسى المدرس والشيخ توفيق البتشتى جالس مع الطلبة ، ومر عليهم الشيخ عبدالحكم عطا شيخ القسم العالى ووقف خلف الطالب يستمع إلى إلقائه وشرحه ، فأعجب به ، وقال الشيخ توفيق البتشتى : إنه ممتاز فرد عليه الشيخ البتشتى قائلاً : إن كل طلبتى مثله وهو أقلهم ( تزكية لطلبته وإعجاباً بهم )

الدراسة فى الأزهر

لم يكن التدريس فى الأزهر نظام خاص ، أو شروط لقبول الطلبة ، بل يدخله كل من شاء ويقيم فيه ماشاء أن يقيم ، ويختلف إلى الحلقة التى يختارها لنفسه ، وكل مدرس يختار كتاباً خاصاً فى علم معين يقوم بتدريسه تحت عمود من عمدان الأزهر .

وكان الطالب الكفء يطلب العلم الذى يشاء على الشيخ الذى يريد ، حتى إذا رأى فى نفسه أنه عالم ، وأنه قدير على أن يجلس تحت عمود يلقى درسه فيجتمع له الشيوخ والطلبة يشرح لهم مسائل العلم ويتلقى منهم مناقشة لاهوادة فيها لاشفيع له إلا علمه ، ولا سند له إلا لسانه الذى يبين فإن جاز الاختبار استمر فى التدريس .

كان – رحمه الله الشيخ توفيق البتشتى – من هذا الطراز المتميز فى تفكيره وطريقة تعبيره ، وأسلوبه فى عرضه للمسائل العلمية مما حبب إليه الطلاب ، فزادت حلقة دروسه ، وضاق المكان بالراغبين فى علمه ، وانفرد برقعة شاسعة من الأزهر ساعده فيها صوته الجهورى وحنجرته القوية .

صلته بتلاميذه

كان صلته بتلاميذه صلة الشيخ بمريديه ، يرشدهم ويهديهم .

وكثيراً ما كان يحتفل بتلاميذه إذا نال شهادة العالمية ، يسافر معه إلى بلده فى جمع غفير ليهنئه ويهنئ أهله ، ويشاركهم فرحهم وسرورهم . وقد يحفز هذا العمل بعض الشباب الذى يعمل فى الزراعة إلى أن يغير مجرى حياته من الزراعة إلى العلم .

حدثنى فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ صالح شرف عضو جماعة كبار العلماء – أطال الله عمره – بأن الشيخ توفيق البتشتى زار جهينة بحشد كبير احتفالاً بأحد طلبته الذين نالوا شهادة العالمية ، فبهر هذا الاحتفال شاباً فى سن الثامنة عشرة يعمل فى الزراعة ، وقال لنفسه : إننى لو انتسبت إلى الأزهر وحصلت على العالمية سيحتفل بى الشيخ توفيق مثل هذا الاحتفال . وترك الشاب زراعته وانتسب إلى الأزهر ونال ( الشيخ عزوز الجهنى ) العالمية من الأزهر بسبب هذا الاحتفال .

قد يعجبك ايضا
تعليقات