القاهرية
العالم بين يديك

قصة المسخ الصغير

753

د. إيمان بشير ابوكبدة

“الحياة عبارة عن صراع دائم من أجل البقاء، والألم ثمن يدفعه من يولد مرفوضا فيها”

هذا ما تعلمته منذ ولادتي البائسة حتى يوم نهايتي.
فتحت عيناي على هذه الدنيا، لأعلن عن صرختي الأولى والوحيدة أمام باب ملجأ البؤساء.
وأصبحت مجرد رقم جديد في سجلات الملجأ بلا اسم.
عشت فيه طفولتي مع مجموعة من الأطفال من مختلف الأعمار، منهم من ظروفه مشابهة أو مختلفة قليلا عني.
كنا نستيقظ مع بزوغ الفجر على صوت جرس الإنذار المزعج. لتبدأ معركتنا اليومية على من يدخل إلى الحمام أولا، حتى لا نتعرض لعقاب التأخير عن طابور الصباح.
بعد ذلك نقف في الطابور الصباحي لمدة نصف ساعة دون أن يتجرأ أحدنا على القيام بأي حركة بحجة تعليمنا الصبر. ثم نتوجه بخطوات عسكرية إلى قاعة الطعام لتناول وجبة الفطور المكونة من كوب الشاي الأسود دون إضافة السكر مع قطعة من الخبز اليابس وبيضة نصف مسلوقة.
بعدها يقوم عم خليل المرعب مشرف الفترة الصباحية، بتقسيمنا إلى مجموعات صغيرة لتنظيف الملجأ.
بدءا من الحمامات المقرفة (تكون دائما من نصيبي)، إلى غرف النوم الضيقة والباردة كالثلاجة في الشتاء والساخنة في الصيف، بإضافة إلى مهمة غسل الملابس والطبخ والكنس. فنقضي الفترة الصباحية في العمل الداخلي دون توقف حتى يحين وقت تناول وجبة الغذاء المتكونة من حساء الحشرات (حيث تطفو فيه أجسام صغيرة سوداء)، مع ملعقة كبيرة من الأرز وقطعة من الخبز اليابس وكوب من الماء القذر.

بعد الانتهاء من الطعام نتوجه للعمل الخارجي في ورشة النجارة الخاص بإدارة الملجأ حتى منتصف الليل. لنعود مجددا إلى قاعة الطعام لتناول وجبة العشاء التي غالبا ما يتم الاستغناء عنها عقابا لنا.
وأخيرا نستلقى على أسرتنا منهكين من التعب لننام كالأموات.
كانت بعض العائلات الغنية في كل عام ما تجود علينا من ملابسهم القديمة.
أما العقاب في الملجأ فيكون بالضرب الذي مازالت آثاره على جسدي حتى اليوم. وفي بعض الأحيان كنا نسجن في القبو المظلم مليء بالحشرات والجرذان والثعابين.
في هذا المحيط المأساوي عشنا طفولتنا المسروقة. لكن مما زاد مأساتي أني كنت مختلفًا عن باقي الأولاد ببشاعة شكلي الخارجي، فكبر حجم رأسي وقصر قامتي اللذان لا يتناسبان مع هزل جسمي مما جعلني أبدو قزمًا بشعًا رغم أنه ليس لي ذنب في خلقتي التي خلقني الله بها، إلا أن الجميع كان يعاقبني بالسخرية مني فأطلقوا عليَّ اسم المسخ الصغير.

كانوا يتلذذون في تعذيبي وإيلامي بشتى الطرق يوميا. لأنهم يدركون عدم قدرتي في الدفاع عن نفسي لضعف جسدي.
آه، كم من ليالٍ موحشة قضيتها مسجونا في إحدى غرف الحمام القذرة، أو القبو، كنت أبكي وجعا وقهرا بصمت خوفا من أن يسمعوني فيعودون إلى ضربي مجددا.

من كثرة هذه القسوة امتلأ قلبي الصغير بالحقد والكره لجميع من حولي، و أخذت فكرة الانتقام منهم تسيطر على عقلي.
وبعد سنوات من الخوف والعذاب، جاء يوم الإنتقام. ما إن استغرق الجميع في النوم العميق، حتى تسللت بحذر شديد إلى المخزن، ودون تردد قمت بإفراغ براميل البنزين الموجودة فيه، ثم أشعلت عود الكبريت، ووقفت أراقب النار وهي تحرق كل من يقف أمامها.
عندها فقط أحسست بأن شيطان الحقد والكره الذي نما بداخلي لسنوات، أخذ يموت تدريجيا أمام هذا المنظر الرهيب، فجلست أبكي بحرقة بينما النار المحيطة بي تزداد اشتعالا.

قد يعجبك ايضا
تعليقات