القاهرية
العالم بين يديك

مهاجر زاده الخيال(٢)

99

بقلم د. محمد فؤاد منصور

‎نشأت متعاطفاً مع المهاجرين من بلدان أخرى إلى بلدنا، وحفلت طفولتي بحكايات وقصص كنت أسمعها من الأهل عن جيرانهم الأرمن واليونانيين ولازلت أذكر ذلك اليهودي الطيب الذي كان يسكن شارعنا وكنا نتتظره ونحن صغار ليحمل إلينا هدايا بلاستيكية صغيرة من المصنع الذي كان يعمل به وكيف صحونا يوماً لنجده قد تبخر كأن لم يكن ثم علمنا فيما بعد أنه غادر مصر ليعيش في إسرائيل، كان الجو العام آنذاك مشحوناً ضد الجاليات الأجنبية والمتمصرين وخاصة اليهود وقد كان منهم من لايعرف له بلداً آخر غير مصر وطناً، ومع ذلك فقد أجبرهم المد الوطني آنذاك أن يصفوا أعمالهم ويبيعوا أملاكهم ويغادروا مصر إلى المجهول، فلم يتبق منهم إلا الفقير أو قليل الحيلة مثل.
‎ تلك العجوز اليونانية التي كانت تهيم على وجهها في شوارع محرم بك بالإسكندرية ونحن صغار، وكان رفاقي يطاردونها من شارع إلى شارع ويقذفونها بالحجارة ، لم نكن نعرف لها أهلاً ولا مأوى فقد كانت تظهر كل يوم في مكان مختلف، كنت أتألم لألمها في صمت ودون أن أملك دفع باقي الصبية بعيداً عنها أو صد قذائفهم الحجرية التي تنهال عليها وعلى كل من يفكر في حمايتها منهم، هذا غير سيل الشتائم والألفاظ والحركات الموحية التي يهددونها بها ولم تكن ترد إلا بألفاظ مثيرة للشفقة والرثاء مثل ” بس ياولد” أو ” بس ياولد ياقليل الأدب أنت وهو” كانت على ما يبدو قد تربت على عفة اللسان التي لاتعرفها الأحياء الشعبية التي كنا نسكنها، كان تعاطفي معها سببه إحساسي بأنها مقطوعة من شجرة وأنها تعيش على هبات المحسنين من أهل الحي، ومع ذلك فقد كانت ترتدي دائماً جلابيب نظيفة تختلف في شكلها عما تلبسه المصريات، وكان شعرها الفضي اللامع مغسولاً ومصففاً دائماً بشكل جيد ..
‎ وقد وقع في ظني أيامها أنها آخر سلالة منقرضة بقيت على قيد الحياة من عائلة يونانية كانت تسكن ذلك الحي العريق، لذلك تكالبت عليها الوحدة والشيخوخة وعبث الصغار
‎ الهجرة إذن كانت حاضرة في مخيلتنا كأمر واقع قد يتعرض له بعض من تضيق بهم بلادهم أو تشح أرزاقهم في مرابعهم وكنت أظن أنني بعيد كل البعد عن ذلك المصير ..

قد يعجبك ايضا
تعليقات