التاريخ يعيد نفسه..؟!

د. إسلام إسماعيل أبوزيد
دكتوراه التاريخ والحضارة من جامعة الإسكندرية. عضو إتحاد المؤرخين العرب

أمام الهجمة الأمريكية الصهيونية على فلسطين…أتذكر كيف ضاعت الأندلس، واسأل نفسي، كم أندلس سوف نفقد؟!…

أول ما يخطر ببالي، هو محمد بن يوسف بن نصر أو (ابن الأحمر)، مؤسس مملكة غرناطة، آخر معاقل المسلمين في الأندلس والتى جمعت شتات الأندلسيين لأكثر من ٢٦٠ عاما قبل سقوطها عام ٨٩٧هجرية/ ١٤٩٢ ميلادية.

في سبيله لتكوين مملكته في غرناطة، عادى الجميع وداس على كل شئ، انبطح تحت أقدام الإسبان، حاصر مدن المسلمين، ودفع الإتاوة، وسلم المدن والحصون على طبق من ذهب لهم، تنقل بين الولاءات السياسية كما ينزع الرجل خاتما من أصبعه ليضعه في صابع آخر، مثّل حالة فريدة في الرضوخ والهوان، لكن الموالين له وحملة الدفوف في عصره وصفوا ذلك بالكياسة في السياسة وحسن التدبير وعلو الهمة.

سُمي هذا الرجل بابن الأحمر لشقرة فيه ولازمت سائر سلالته التى وصلت لاثنين وعشرين سلطانا، وكان أميرا على قرية أرجونة، وهي قرية صغيرة من قرى غرناطة(جنوب الأندلس/ إسبانيا)، وبعد فترة دخل في صراعات كبيرة مع أمير أندلسي يسمى محمد بن يوسف بن هود استطاع أن يجمع شتات بعض المدن الأندلسية إثر هزيمة جيوش الموحدين من الإسبان في موقعة العقاب عام ٦٠٩هجرية، وهي الهزيمة التي عجلت بسقوط الدولة وسقوط كبرى المدن الأندلسية في يد الإسبان.
تنقل ابن الأحمر في صراعه مع ابن هود في مجموعة من الولاءات لاكتساب شرعية الحكم، مثل الحفصيين في تونس، والموحدين في مراكش ومن بعدهم المرينين، بل وصل الحال لإعلان طاعة العباسيين في بغداد.

حصل ما تمناه ابن الأحمر ومات ابن هود مسموما، وتبخرت آمال وحدة الأندلس رغم أن ابن هود لم يكن منصورا في حروبه ضد الإسبان.

ماذا يفعل ابن الأحمر؟!، لقد نجح أولا في السيطرة على غرناطة، وكوّن فيها مملكته الصغيرة عام ٦٣٣هجرية، وضم إليها بعض المدن الكبرى مثل إشبيلية ومرسية وجيان، وأغمض عينه حين سقطت مدينة قرطبة عاصمة الأندلس القديمة تحت وطأة حصار الإسبان، وأعلن استقبال المهجرين من مدن الأندلس تحت حصار الإسبان والمجازر التى ارتكبوها بحق المسلمين في الأندلس.

الأغرب لم يأت بعد، سرعان ما قام فرناندو الثالث ملك مملكة قشتالة الإسبانية بمحاصرة أراضي غرناطة، فما كان من ابن الأحمر إلا أن ذهب إلى معسكره صاغرا ذليلا، قدم له بعض المدن هدية مثل جيان ومرسية(بلد المرسي أبو العباس)، ولم يكتف بذلك بل أعلن دخوله في طاعته، وأن سيكون نائبا له على غرناطة، يحضر مجلس الكورتيس القشتالي، ويدفع الجزية( الإتاوة) وقدرها ١٥٠ ألف قطعة ذهبية كل عام، والأدهى أن يشارك بقواته في حصار باقي المدن الأندلسية الإسلامية التي لم تسقط بعد، وهذا ما قام به عندما حاصر مدينة إشبيلية إحدى عواصم الأندلس الكبرى، والتي سقطت عام ٦٤٦هجرية، بعد حصار دام لثمانية عشر شهرا، وشارك ابن الأحمر في ذلك الحصار بجيش قوامه ١٠ آلاف مقاتل.

كانت صدمة أهالي إشبيلية كبيرة عندما رأوا أن الخذلان يأتيهم من بني جلدتهم وإخوانهم في الدين، ولما جاء وفد أهالي إشبيلية إلى مجلس فرناندو الثالث، لم يعرفوا بعد أمر هذه الخسة، فقالوا سنصمد أمام هذا الحصار وسينجدنا إخواننا من أهل غرناطة، فما هي إلا لحظات حتى برز ابن الأحمر أمامهم فاستسلموا بعد فترة ورحلوا مهجرين، وكان من بين هؤلاء الللاجئين الجد الأكبر لمؤسس علم الاجتماع ولي الدين بن خلدون.

أعلن ابن الأحمر قبوله للتهجير، وقطع أمام فرناندو الثالث العهود بأن غرناطة وقشتالة سيعيشان بأمان في ظل انضواء مملكته غرناطة تحت راية الإسبان، وحُشد جميع اللاجئين الأندلسيين من أبناء المدن الأندلسية المنكوبة في غرناطة، حتى أصبحت آخر معاقل المسلمين في الأندلس.

حكم ابن الأحمر غرناطة بين عامي ٦٣٣ و٦٧٢ هجرية، وهو تاريخ وفاته، وكون دولته تحت رعاية إسبانية كاثوليكية، وظن أنه دخل التاريخ بتكوين هذه الدولة، لكنه لم يعلم أن لعنات المؤرخين ستصحبه حتى الآن، فأصبح المثال الأبرز للخيانة والعمالة والانبطاح.

حكم ٢٢ سلطانا من أولاده، تنازعوا على الحكم، وخاضوا حروبا دموية على العرش، فالأخ يقتل أخاه والولد يعزل أباه، وكان آخرهم أبو عبد الله محمد الثاني عشر/ الصغير، أو (بوبديل) كما أطلق عليه الإسبان، في سبيل وصوله للعرش قاتل والده وعمه، وعلى غرار جده الأكبر محمد بن يوسف الأول، دخل في طاعة الإسبان، ودفع لهم الجزية، ووقع معه معاهدة سرية لازالت موجودة حتى الآن بأن يسلم لهم مفاتيح غرناطة مقابل بعض الامتيازات و٣٠ ألف قطعة ذهبية، وهذا ما تم في نهاية المطاف وسقطت غرناطة وغربت شمس المسلمين في الأندلس عام ٨٩٧هجرية/ ١٤٩٢ميلادية، وسلم أبو عبد الله مفاتيح غرناطة، وحينما ودع المدينة بكى وتنهد، فقالت له أمه (أبك كالنساء ملكا مضاعا.. لم تحافظ عليه مثل الرجال)، ولا زال هذا الموضع موجودا على مشارف غرناطة ويُعرف بزفرة العربي الأخير في دلالة على تنهيدة وبكاء أبي عبد الله.

ورغم أن الإسبان قطعوا العهود بأن يعيش المسلمين مرعايا لهم كامل الحقوق في ممارسة شعائرهم الدينية وأن يكونوا آمنين في أنفسهم وأموالهم وأملاكهم ومستجدهم، لكنهم نكثوا بالعهود، وأرغموا المسلمين على التنصير، ونصبوا لهم محاكم التفتيش التي أذاقتهم شتى صنوف العذاب، وألقوا بهم أحياء في البحر.

ولكن، أين كان المسلمون في ذلك الوقت؟، كان الصراع على أشده بين السلطان الأشرف قايتباي سلطان اللماليك في مصر والشام ، وبايزيد الثاني سلطان العثمانيين، كانا يقتتلان سويا، يتنازعان السيادة على العالم الإسلامي ، اكتفى الأول بالتنديد والوعيد بأن يعامل المسيحيين في المشرق بنفس المعاملة، وسيخرم الحجاج الأوروبيين من الوصول لكنيسة القيامة في بيت المقدس، أما الثاني فأرسل بعض السفن تتلقف بعض المسلمين واليهود الذي ألقى بهم الإسبان أمام شواطئ إسبانيا….

ليتنا نتعلم من دروس التاريخ….
بقلم د.اسلام أبوزيد
عضو اتحاد المؤرخين العرب

التاريخ يعيد نفسه..؟!
Comments (0)
Add Comment