رفعت الجلسة

بقلم/ انتصار عمار

أسوار فلاذية، قضبان حديدية، وخلف القضبان يقف المتهم ماثلًا أمام هيئة المحكمة الموقرة، مكبلًا بمعاصم من حديد.

يلتهم الخوف أجزاء جسده المترامية في زنزانة الحسرة والأسى، وتنهش أشلاءه أنياب القلق، أسير تخبطات أفكاره، وهلاوس وساوسه.

يرتعد صوت صرخاته المدوية في أرجاء توتره، خارت قواه، وانهار بنيانه، وسقط جسده مغشيًا عليه في أرض القيود والأغلال.

وها هي قد حانت اللحظة الحاسمة الفارقة، وإذ بحاجب المحكمة ينادي؛ محكمة!

فيعتلي القاضي كُرسيه، ونصبت المحاكمة، ولأول مرة في تاريخ البشرية يتم القضاء والفصل بين متهمين من نوع غريب، لم تألفه البشر، ولم تعهده من قبل.

فأنا القاضي المنوط بأن يبت في أمر المتهم، ويجول وكتاب حياته، فيقلب ورقةً ورقة من صفحات هذا الكتاب.

يحيا بين سطوره، يسكن بيت كلماته، يقف على حافة هذا الكتاب، يصعد درج سطوره، يستمع إلى أنفاس صوته.

هذا شأن القاضي، ولكن ماذا عن المتهم؟
والمتهم بساحة القضاء اليوم؛ متهم فريد من نوعه، مختلف في جُرمه عن مثيله من المجرمين.

هو ذاك المتهم الذي قاموا بزجه في غياهب السجن، وألقوا به بين أنياب القضاء، وطالبوا بمحاكمته، بل وتوقيع أقصى العقوبة عليه.

من هو المتهم؟ وما هي التهمة المنسوبة إليه؟ وماذا سيكون حكم القاضي عليه؟

ذاك المتهم الذي يطالبون بتوقيع أقصى العقوبة عليه هو؛ “قلبي،” ذاك المدان في نظرهم، هو القلب الذي لطالما عاش وحيدًا في عالمه الصغير ذي الأصابع الحانية.

تلك الأصابع التي كان يرسم نسيجها، ليحيا تحت ظلالها الوارفة، وينعم بدفئها، ويشعر بأمان يحتضن خوفه من المجهول.

كام تضم رضيعها الأول الذي خرج من بين صرخات المخاض، وتذوب آلامها مع أول صرخة ميلاد لذلك الرضيع.

قلب حيا أعزلًا، بعيدًا عن صخب الحياة، وضوضاء البشر، كبر من خلال مدرسة الحياة، وسيناريوهاتها التي كان يكتبها.

ويجسدها، يتفاعل مع شخصياتها، ويحيا مع أبطالها، ويسافر عبر آلة الزمن إلى عالمها، ويسكن مدنها، ويتحدث لغة أهلها.

ينام وحفيف أشجارها، يبحر وخرير مائها، يتنقل من عالم لآخر، ويقتطف زهرات الحياة، كي يستطيع مواصلة السير.

ذلك الدرب الشائك الذي حفر بقدمي تشققات العمر، وأسدل ستار العمر الممزق على ملامح وجهي الذي كسته تجاعيد الزمن.

لم أكن سندريلا القرن التي تناست دقات قلبها في أرجاء قصر الأمير الذي أحبته، ولا بالأميرة الحالمة التي تسكن القصر الفاره.

ولا بتلك العجوز التي تسكن كوخ الحياة المهشم، وتنتظر صعود أنفاسها الأخيرة درج السماء.

وإنما أنا بيت القصيد الهارب من جوامع الكلم، ومن كل اللغات، أنا الممنوعة من الصرف، الكلمة التي لا محل لها في قاموس الحياة.

العاشق الثائر على كل قوانين العشق، المتنفس هواء كتب عليه قدرًا أن يحياه، وغيبًا يحرمه.

العاشق الذي وطأ أرضًا صماء، ووضع رحاله بها، واغترب عن موطنه، وسكن بلاد العشق التي تبعد آلاف الأميال عن دربه.

صاحب الوحدة والعزلة، وبات غريبًا في عين القمر، يتجرع كأس الهوى حتى الثمالة.

حيا وجنونه بك، يبيت كل ليل يرسم ملامح حياته معك، ويصحو وشروق شمسه حين ترسم تباشير الصباح ندا يقبل خدي الزهر.

لم يكن حبًا كعشق زليخة ليوسف، ولا “مي” ل “جبران”، بل هو عشق فاق كل عشق، سافر عبر قارات الهوى، وتخطى كل بلاد الشوق، و نسج بيت القصيد في هواك وحفره على جدران الهوى نقوشًا.

حب لم تعرفه البشرية، لم يهبط أرضها بعد، أو قلبي المدان إذن؟ أو قلبي الذي زُج به في بيداء زنزانات الهوى؟

أي ذنب اقترفت سيدي القاضي؟ يامن أنا منك، أحيا بين جنباتك، أسكن داخل أضلعك، أبيت وثناياك.

أي قانون هذا الذي يحكم بين الشجرة ولحائها؟ والبحر ومائه؟ الربيع وزهراته!!

القاضي أنا، وقلبي المتهم المدان، ونادي الحاجب على شاهد الإثبات الذي تم استدعاؤه، وأتى شاهد الإثبات لسماع أقواله.

وكان شاهد الإثبات الوحيد بهذه القضية هو “مشاعري” والتي قامت بشن غارتها على قلبي، وألقت عليه لومًا في هواه في عصر لا يعترف بهوى قط.

وشرعت حديثها مستهلة بمقولة؛”أني عاشق بلا هوية”

لكن؛ من قال أني عاشق بلا هوية؟ بلى؛ إنني ذو هوية، فالهوى موطني، والعشق مذهبي، ومحراب عينيه قبلتي، وقلبه داري، وجنباته مسكني.

من قال أني بلا هوية؟ كيف! وحبك هويتي، وعشقي لك هو خير إثبات لشخصيتي.

وبعد الإطلاع على كافة مستندات وأوراق القضية، وسماع أقوال شاهد الإثبات الوحيد بها؛ قررنا نحن قاضي محكمة الحياة الإفراج عن القلب من التهمة المنسوبة إليه؛ ألا وهي؛ ” أنه عاشقٌ بلا هوية”، وإخلاء سبيله.

وذلك لثبوت صحة كلامه، وعدم كفاية الأدلة التي تدين المتهم، وأنه لا يوجد قانون يجرم الهوى، ولا تشريع ينص بمعاقبة العاشق.

.رفعت الجلسة
Comments (0)
Add Comment