بقلم السيد عيد
من تراب” ليست مجرد عبارة، إنها فلسفة. التراب ليس فقط الغطاء الذي يدفن الكنوز، بل هو الحارس الذي يقرر متى ومن يحصل عليها. وفي كل مرة تحاول فيها انتزاع شيء منه، يذكرك بحقيقة لا مفر منها: كلنا، في النهاية، نعود إليه. بات التراب متوجاً وجوه تماثيل العظماء والمشاهير في قلب العاصمة. تجلى حضوره في ملامح طلعت حرب ، ونجيب محفوظ، وحصان إبراهيم باشا، وكأنه حارس شخصي مرتفعًا فوق كل ركن من هذا الوطن وكأنه يعانق الزمن والتاريخ. بل امتد ليغمر إبراهيم باشا ومصر كلها .
التراب ليس مجرد مادة تغطي الأرض، بل هو شاهد على التاريخ، وحامل للذاكرة، وأحيانًا مرآة تعكس واقعنا. إنه رمز يجسد كل ما نحمله من أحلام، وتطلعات، وحتى إخفاقات. في مصر، يصبح التراب أكثر من ذلك بكثير؛ هو جزء من الهوية المصرية، يلامس حياتنا اليومية في كل زاوية.
التراب المصري ليس خاملاً؛ إنه كائن حي، يسافر عبر شوارع القاهرة المزدحمة، ويستقر على وجوه تماثيل العظماء، بدءًا من طلعت حرب وحتى حصان إبراهيم باشا في ميدان العتبة. وكأنه يؤكد حضوره المستمر كحارس على الإرث التاريخي. لكن هذا التراب ليس انتقائيًا؛ فهو لا يميز بين العظماء وعامة الناس. إنه يلف الجميع، كما لو كان يقول لنا: “أنا الأصل، وأنا النهاية.”
حتى في الأحاديث اليومية، أصبح التراب جزءًا من التعبيرات الشعبية. تقول أم الزوجة لابنتها في حالة غضب: “ده ما يستاهلش التراب اللي بتمشي عليه”، في إشارة إلى مدى قدسية التراب كمقياس للقيمة. أما القسم الوطني الشهير “أحلف بسماها وبترابها”، فهو تعبير عن الارتباط العميق بالأرض، وكأن التراب أكثر من مجرد ذرات؛ إنه عهد لا يُنقض.
المصريون، على مدار العصور، يقدسون تراب بلادهم. ليس لأنه مجرد غبار، بل لأنه يحمل أثقال الماضي وآمال المستقبل. ماجدة في فيلم “العمر لحظة” لخّصت هذه الفلسفة عندما قالت: “التراب غالي… والضنا غالي.” وكأنها تعبر عن ارتباط لا يمكن فصله بين الأرض وأبنائها.
لكن العلاقة مع التراب ليست دائمًا عاطفية. في الحياة اليومية، يتسلل التراب إلى كل مكان؛ إلى المنازل، الكتب، وحتى عقول الموهوبين. وفي ظل الحكومات التي تتقن فن الإهمال، يصبح التراب استعارة للإحباط. العقول المميزة تُدفن تحت “تراب” التجاهل، وكأنها تُعامل ككنوز لا تحتاج إلا للدفن بدلاً من الاستخراج.
ورغم كل ذلك، يظل التراب رمزًا للصمود. عبد الحليم حافظ قالها ببساطة وعمق: “أنا من تراب.” هذه العبارة ليست فقط تعبيرًا عن الأصل، بل أيضًا عن التحدي. نحن نصنع من التراب بداية جديدة، مهما حاول أن يغطي أحلامنا.
ربما حان الوقت لإعادة النظر في علاقتنا مع التراب. بدلاً من أن نسمح له أن يغزو كل ركن في حياتنا، يجب أن نتعلم كيف نحترمه دون أن نستسلم له. أن ننظف تراب الإهمال عن العقول، ونحوله من عبء إلى مصدر إلهام.
لعل الخطوة الأولى نحو المستقبل تبدأ من هنا: أن نعيد للتراب قيمته الحقيقية، ليس كعبءٍ يُغطي حياتنا، بل كرمزٍ يحفزنا على النهوض. التراب المصري ليس فقط ذراتٍ عالقة في الهواء؛ إنه دعوة دائمة للتغيير.
ربما حان الوقت لنقول للتراب: “كفاية كده، نحن فهمنا إنك مهم”.