بقلم السيد عيد
في زحام محطة مترو حلوان، حيث تتلاحق القطارات ويتدافع الركاب كأنهم يسابقون الزمن، يتبدى مشهد يعكس عمق الشعور الذي يسكن نفوس المصريين. هذا التدافع والتسرع في اللحاق بكل قطار، مهما كان القطار التالي على مقربة، يشير إلى خوف متأصل من ضياع الفرص، وكأن كل لحظة قد تحمل فيها وعدًا بمستقبل أفضل. ربما هو إرث من وعود لم تحققها الحكومة لهم، أحلام تراكمت دون أن تجد طريقها إلى الواقع.
في تلك الزحمة، وجدت نفسي وسط سيل من الركاب لا يملك أحدهم سوى الأمل في مكان للوقوف. أتابع خطى الركاب بنوع من السكينة، وأصغي إلى أصوات نقاشاتهم المستمرة. بدا لي المشهد وكأنه انعكاس لحالة من التصالح مع التناقضات. أحدهم يمسك هاتفه ويخبر صديقه بأنه سيصل المرج بعد عشر دقائق، رغم أن الرحلة من حلوان إلى المرج تستغرق ما يقارب الساعة والنصف. إنها قدرة فريدة على مواءمة الخيال مع الواقع.
وصلت إلى محطة المعادي، حيث تسنى لي أن أجد مكانًا بجوار الباب، أتشبث بماسورة حتي لا أتأرجح مع حركات القطار وكأني في دريم بارك أخرجت هاتفي، أتابع الجريدة، بعيدا عن صراخ وضجيج الباعة الجائلين وعروضهم الحصرية التي لا تنتهي، حينها اخترق أذني صوت شجي، كأنه نابع من عالم آخر. صوت صافي عذب، كان يتسلل بين الضجيج، يجبرني على إغلاق الهاتف والتركيز فقط على هذا الصوت الساحر. بدا الصوت كأنه لفنانة كبيرة موهوبة، صوت يفيض بالجمال والمرح، يغمرني دفئًا وسط برودة الشتاء.
تزايدت رغبتي في رؤية صاحبة الصوت. من تكون؟ ربما أميرة من عصر مضى، أو أنها كوكب شرق جديدة بدأت أتخيل ملامحها، كلما اقترب الصوت زاد فضولي. لكن المفاجأة كانت أكبر مما توقعت. وسط هذا الزحام، ظهرت فتاة صغيرة، بملامح بريئة، عيناها واسعتان كأنهما تحملان جمال السماء والارض ملابسها متواضعة جدا لا تليق بموهبتها.
كانت تغني ، وملابسها القديمة وحذاؤها يحمل فتحات كثيرة تكشف عن حالتها المادية، لكنها لم تكن بحاجة لكلمات أو أموال، فقد كانت تقدم شيئًا نادرًا: السعادة الخالصة.
حين مدت يدها بمنديل تتسول به، حتي تستطيع أن تنفق علي أخواتها، شعرت بحيرة تملؤني. كيف لفتاة بهذا الجمال وهذا الصوت أن تكون في هذا الموقف؟ لو غنت في الاوبرا لأبهرت الجميع
أعطيتها بعض النقود، ليس لأنني شعرت بالشفقة، ولكن لأنها منحتني لحظات من السعادة النادرة. ابتسمت لي وذهبت بعيدًا، تاركة في نفسي سعادة لا توصف. عندما غادرت العربة في المحطة التالية، شعرت وكأنها ودعتني بابتسامة شكر، وكأنها كانت تقول لي: “شكراً لأنك استمعت، شكراً لأنك شجعتني”.
عدت لفتح هاتفي لأتابع الأخبار من جديد، لكن تلك الفتاة الصغيرة وصوتها ظل في أذني، متسللًا ذاكرتي، كأنها درس عن الجمال المختبئ في أبسط الأماكن، وعن الحياة التي تستمر رغم كل التحديات وكأنها لحن البراءة في زحام المترو .