عبدالله القطاري
تقع عمادة العيايشة في معتمدية بلخير من ولاية قفصة و تبعد عن واحة القطار قرابة 35 كم. و وهي قرية جبلية بلغ عدد سكانها في أوائل الفترة الاستعمارية الفرنسية 1800 نسمة . ينحدر سكان العيايشة من قبيلة ورغمة البربرية التي كانت تبسط نفودها على مساحات شاسعة من الجنوب الشرقي بين واد الزاس والتخوم الطرابلسية . فما هي قصة انتقالهم إلى موقعهم الجديد هذه رواية تداولها أبناء العيايشة عن محنة أجدادهم و نقلها الكاتب الفرنسي نرسيس فوكون Narcisse Faucon في كتابه ” البلاد التونسية منذ الاحتلال ” الصادر سنة 1892 و قد أخذها عن مجلة :
La Revue de l’Afrique française , n° du 15 mai 1888.
تقول هذه الرواية ” قبل حوالي 500 عام كان العيايشة عرشا قويا جعل منهم التواجد في منطقة حدودية محاربين يقودهم رئيس ذو نفوذ غير أنه كان مجبرا على الانفاق مجموعة من فرسان المخازنية المرابطين بالجهة . و على غرار سائر المخازنية تميز هؤلاء الفرسان بصلفهم تجاه السكان الفقراء و بتشددهم في الجباية التي غالبا ما يثقلونها بعدة رسوم إضافية . و في يوم من الأيام ، كان أهالي العيايشة منغمسين في إحياء حفل زفاف و إذ بهم يفاجؤون بكتيبة من الـﭬوميةgoum تتكون من 40 فارس يحطون بينهم و يطالبونهم بدفع الضرائب والديون المتخلدة . و كما جرت العادة في مثل هذه المناسبات لم يكتف المخازنية بالمال المستوجب على السكان بل طالبوا بأن تُعِدّ لهم و لقائدهم و خيولهم ضيفة تناسب مكانتهم . و إمعانا في السطوة و الإذلال أصرّوا بأن تتكفل العروس الشابة بتقديم الطعام لهم و بأن تصحب خيولهم إلى المشرب . أُجبر العيايشة على القبول بهذه المطالب الجائرة خشية التعرض لعقاب الفرسان الذين كانوا مسلحين فقادت العروس المسكينة الخيول إلى المورد و عادت لتقديم طعام المخازنية الذي كان يتوجب أن يتكون من 40 طبق من الكسكسي على كل واحد منها دجاجة كاملة . وزعت الفتاة القصاع و انهمك المخازنية في الأكل و فجأة تفطّن أحدهم أن الدجاجة التي قدّمت إليه ينقصها أحد الجناحين فزمجر بعبارات الاحتجاج و الغضب . وفي حركة مساندة لزميلهم توقّف جميع الفرسان عن الأكل و أصدروا الأمر بإحضار ربّ العائلة الذي قدّم هذا الطبق الناقص لينال جزاءه . جُلب المسكين في لمح البصر و وقف أمام الفرسان مرتجفا فأفاد بصوت متقطع بأن ابنه الصغير رأى الدجاجة الشهية فلم يتمالك نفسه و ترجى أمّه أن تذيقه قطعة منها فضعفت أمام توسلاته و دموعه و سلمته تلك القطعة الصغيرة . أنهى الرجل المسكين كلامه طالبا الصفح متعهدا بالتكفير عن هذا التصرف غير المقصود لكن غضب المخازنية لم يهدأ فطالبوا بإحضار الصبي و قطعوا ذراعه تعويضا عن الجناح الناقص . تمالك الرجل نفسه و لم يبد أي احتجاج و أخذ صغيره و قفل عائدا إلى عشيرته . و في جنح الليل هجم هو والأهالي على الأربعين فارسا و ذبحوهم جميعا و مع انبزاغ الفجر كان كل أبناء العيايشة قد جمعوا خيامهم و ارتحلوا على عجل تاركين القبيلة والبلد و لم يشعروا بالأمان إلا عندما حطّوا في موقعهم الحالي بين الجبال المنيعة التي أطلقوا عليها اسم ”العيايشة ” نسبة للمنعة التي وفّر لهم من انتقام ﭬايد ورغمة و أملا في انبعاث جديد ( عيشة جديدة ) . لكن بعد فترة وجيزة تبيّن للعيايشة أن المكان الذي حطّوا فيه لم يكن خاليا من السكان كما كانوا يأملون بل كان محيطه يضم فرعا من قبيلة المرازيـڨ القوية . جرت مناوشات بين عديدة بين الطرفين حول المراعي و بعد مفاوضات طويلة توصلا إلى اتفاق على التآلف و التجاور الآمن و لربط أواصر العلاقة و درء الخلافات اتفقا على التصاهر فتزوج أحد أبناء العيايشة بنتا من المرازيڨ و تزوج شابا من المرازيڨ بنتا من العيايشة و صارا العرشان يشتركان في مراحيل الهطاية نحو الشمال بحثا عن الحبوب و في اتجاه نفزاوة بحثا عن التمور . و خلال هذه الرحلات الخطيرة ذاع صيت العيايشة كمقاتلين أشداء . عن :
Faucon ( N ) , La Tunisie depuis l’occupation française , Paris 1892 .
بتصرف . Revue de l’Afrique française , n° du 15 mai 1888 , p .191 .