عندما يحتضر الشوق في سجن البدن

انتصار عمار

أحيانًا كثيرة تمر علينا لحظات، نشتاق فيها إلى أنفسنا القديمة، كثوٍب جميل، كنا نرتديه بزمن الطفولة.

ونفاخر به، ونتباهى بجماله، وحسن مظهره، وزركشة ألوانه.

ثم جاء الزمن يطرق أبواب سنوات العمر، ليخبرنا أننا قد كبرنا بالعمر، وأن هذا الثوب لم يعد يتماشى مع هذه المرحلة العمرية التي نمر بها.

وأنه وجب علينا أن نخلع عن أنفسنا هذا الثوب الذي لطالما أحببناه.

وهذا دومًا حال الأطفال الصغار عندما يشبون شيئًا فشيئًا، يتوقون إلى عالمهم الصغير، (قصصهم، ألعابهم، ملابسهم، أصدقائهم، بل ويتوقون لأنفسهم
التي كانت صغيرة.

والتي لم تخرج لهموم الحياة بعد، ولم يحرقها لهيب الزمن، وتقلباته، لم يعتصرها ألم التفكير بالمستقبل.

أقصى تطلعاتها فستانٌ جديد، أو لعبٌة جديدة، زمٌن يكسو ملامحه البراءة، والعفوية، زمٌن لم يلحق بركب الأحزان بعد.

فسفن الحزن والشجن تخترق شواطيء الزمن، وتعصف بنا، لتعبر مواني أخرى أشد ألمًا، ووجعًا.

وتُلق بنا في غيابات المجهول، الذي نخشاه ونخافه، بل ونخاف التفكير به أيضًا.

فكلما كبرنا، كلما اختلف الزمن، وتغيرت ملامحه، وسكن بنا الشجن، ربما لثقل المسئولية على عاتقنا، ربما لقسوة الحياة ، وتلون البشر، وتغير طبائعهم، ربما لفقد أشخاص غواٍل رحلوا من عالمنا.

وتدور بنا دائرة الهوى، وترتسم حول محيطنا لتغرقنا داخلها، فنهوى، ولا نجد منقذًا لنا.

ونظل نلاطم أمواج الحياة، ونضرب بأيدينا عرض الحياة، ونطفو فوق الموج، ونحاول أن ننجو، وتزوغ أعيننا يمينًا، ويسارًا، ويشخص البصر سائلًا؛ هل من منقذ لغريٍق تُغرقه هموم الحياة؟

وإذ بنا ونحن نصارع الغرق، نلتفت لنرى وشاح الليل الأسود ينسدل ستاره على حافة الزمن.

ويزداد الليل ظلمًة، ويشتد سوادًا، كلما زاد الطمع والعناد، وصراع البشر على السلطة، والمال، والمنصب، وخلافه،

وطمع في كل خزائن الدنيا، وهم لينهل من بحورها ، كلما بعد عن الرضا بقضاء الله، ووقع بدائرة سخطه.

ويسافر من أجل تكوين ثروة مالية، ظانًا منه أنه سوف يستظل تحت أوراقها الوارفة.

ولكنه سرعان ما يحس حاله غريبًا بأرٍض لم تحنو عليه، أرٍض ليست بوطنه.

فتنكسر روحه ألمًا من أنياب الغربة التي فتكت به، وذل البحث عن لقمة العيش، والتي هرول ورائها خارج الوطن.

فيعاتبه شوقه، وحنينه إلى وطنه، ذاك الشوق الذي يكابده، ويُلاحقه، حبيسًا في سجن البدن، لم يُفرج عنه بعد.

ويُعاود ليصافح خياله، ويحلم بيوٍم جديد، تطرق فيه أشعة الشمس بابه، وتحتضن وجنتيه، لتُعلن قدوم النهار.

فيعود المغترب عن وطنه، لأرضه الأم، وأهله، ومسكنه، طمعًا في الحضن الدافيء، وذراعي الأمان حين تصافحه.

لم يا زمان لم تتركنا أبرياء؟
لم عبرت بنا كل هذه السنين فوق هضاب الحزن والأسى؟
لم تغيرت ملامحك؟ وازدت حدة وقسوة؟

لم سرت بنا دربًا طويلًا لا نهاية له، ولا راية به مرفوعة تشير إلى الرجوع؟ وحفرت بيدك داخلنا خندقًا للهموم؟

يالها من سخرية القدر!

ليتك تأتيني بزماني الذي عشقته، زمن البراءة التي كنت أسكب فيه ضحكاتي التي كانت تلاطم الأمواج في بحر الدموع.

ولكني مازلت أتساءل؟

إلى أين يأخذنا الأنين؟

هل إلى درب الليالي المخيفة التي لا تحمل ملامحها أعين؟

ليالي صماء، عمياء لا تحكي، ولا تبصر !

وماذا عن الحنين؟ تراه يأخذنا لأين؟

وإلى أين يُبحر بنا شراع الحنين؟

هل من مجيٍب يُجيب غريقًا في عرض البحر يُغرقه الموج دون وسيلة لنجاة؟

عندما يحتضر الشوق في سجن البدن
Comments (0)
Add Comment