محمود سعيد برغش
22 من أكتوبر 1260 ميلادية، الصالحية، على مشارف مصر، طريق عودة الجيش المملوكي، خرج السلطان قطز ومعه أمراؤه لصيد الأرانب…
ثم… برودة عاتية تجتاح السلطان الملقى في بركة من دمائه، ألم الجسد المثخن بالطعنات والمخترق برؤوس السهام تنسحب لتحل محلها سكينة عجيبة. كانت آخر نصيبه من مرئيات الدنيا وجوه أحاطت به ترمق بقايا الحياة في وجهه المتعرق. ميز ملامح كل من نصير الأصفهاني، بدغان الركني، بهادر المعزي، بلبان الرشيدي، بينما غطت ضبابة كثيفة باقي مجال البصر، فلم يميز باقي وجوه رفاقه… قتَلَته.
اخترق الضباب وجه صارم الملامح، انسالت خصلة من شعره الأشقر فغطت إحدى عينيه الزرقاوين. انحنى الوجه حتى صافحت أنفاسه الحارة الأنفاس المحتضرة. تمتم بآخر قواه الداوية: بيبرس! جثا بيبرس على ركبتيه ومد يده التي يتناقض حنانها مع سيفه الذي هوى به على عاتق ضحيته قبل لحظات. تمتم بيبرس بدوره مستخدمًا لغتهما التركية التي لم يعد يستخدمها منذ زمن ليس بالقليل: انتهى الأمر، استرح، نم، انتهى الأمر يا صديقي، هنا تنتهي الرحلة وينقضي الدين القديم وتذهب العداوات…
حاول قطز الرد بغمغمات خانه لسانه عنها فخرجت مختلطة مبهمة. تدفق الدم من فمه ومن وعيه المحتضر تدفقت الذكريات. حاول عبثًا أن يبصق السائل الثقيل، سلطان مصر والشام كاسر جيش المغول يعجز عن مجرد بزقة.
يعود به الزمان … لا يذكر ماذا كان خطؤه ليجعل سيده الدمشقي القديم يحتد عليه فيصفعه ويسبه ويسب آباءه وأجداده، فليست القسوة من صفات سيده. انزوى في غرفته يبكي عازفًا عن الطعام ومخالطة الآخرين. آه من ذل من كان عزيز قومه، أبوه وجده، من كانا عظماء دولتيهما، يسعى لشرف تقبيل أعتابهما قبل أن تغدر بهما الأيام فيزول ملكهما ويموتان شريدين ذليلين، حتى يأتي يوم يسبهما رجل عامي… فدخل عليه الحاج علي الفرّاش ليواسيه فقال له: “ما هذا البكاء العظيم؟ من لطشة تعمل هذه العمايل؟ فلو وقع فيك جرح سيف أو نشاب (سهم) كيف كنت تصنع؟” فقال: “والله يا حاج، ما بكائي وغيظي من لطشة، فإن السيوف والله ما تعمل فيّ، وإنما غيظي على لعنته لوالدي وأبي وجدي، وهم والله خير من آبائه وجدوده.” فقال له: “ومن هو أبوك أنت ومن جدك وأنت مملوك تركي كافر؟” فقال: “لا تقل هكذا يا حاج، والله ما أنا إلا مسلم ابن مسلم إلى عشر جدود، أنا محمود بن ممدود ابن أخت خوارز