بول أوستر الكاتب والمخرج الذي حاكاه واقعه

تقرير رانيا ضيف

حالة من الحزن العميق استشرت في الوسط الثقافي والأدبي لرحيل الكاتب والمخرج الأمريكي بول أوستر الذي لم يكن مجرد كاتبًا بارعًا بل شخصية أدبية متعددة المواهب. بدأت رواياته تجذب الانتباه منذ روايته الأولى “سيتي أوف غلاس” التي نشرت في عام 1985، والتي تتناول رحلة شخصية في مدينة نيويورك. واصل أوستر إثارة الفضول والتأمل من خلال أعماله اللاحقة مثل “وراء العجلة” و”الرجل بدون صفات” و”جريمة الغرفة الخامسة”، التي تمزج بين الخيال والواقعية بطريقة مثيرة للاهتمام.
بعد تخرجه من جامعة كولومبيا عام 1970، انتقل أوستر إلى باريس، وكوسيلة لكسب قوت يومه قام بترجمة الأدب الفرنسي. عند عودته إلى الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1974، قام بنشر قصائد، مقالات وروايات من تأليفه، فضلاً عن الأعمال التي قام بترجمتها لبعض الكُتاب الفرنسيين مثل ستيفان مالارمي وجوزيف جوبيرت
عقب النجاح الذي حققه أول عمل أنتجه أوستر، والذي كان عبارة عن مذكرات أطلق عليها اختراع العزلة، عاد للأضواء مجددًا عند إصداره ثلاثيته الشهيرة التي تتكون من قصص بوليسية ترتبط ببعضها بشكل بسيط ونشرها تحت عنوان ثلاثية نيويورك. وهذه القصص لم تكن مجرد قصص بوليسية تقليدية تدور حول أمر غامض أو مجموعة أدلة بل قام أوستر باستخدام نموذج المحقق للتطرق إلى قضايا الوجودية وأسئلة الهوية، المكان، اللغة والأدب، مما جعله يبتكر أسلوبا فريدًا في الحداثة (وما نقد ما بعد الحداثة). عند المقارنة بين العملين يقول أوستر، «أعتقد أن العالم مليء بالأحداث الغريبة حيث أن عالمنا الواقعي يُخفي الكثير من الأسرار التي تفوق توقع أي منا. ومن هذا المنطلق نمت الثلاثية مباشرة من اختراع العزلة.»
يتخلل الكثير من أعمال أوستر الأخيرة هاجس البحث عن الهوية والمعاني الشخصية، والكثير منها يركز بشكل كبير على دور الصدفة والعشوائية (موسيقى الصدفة) أو بشكل أعمق، مدى ارتباط الأشخاص بأقرانهم وبيئاتهم (كتاب الأوهام ، قصر القمر). أبطال أوستر غالباً ما يجدون أنفسهم مضطرين للعمل كجزء من مخطط أشخاص آخرين أو منظمات كبرى. في 1995، كتب أوستر وساهم في إخراج فلمين هما Smoke (الذي ربح عنه جائزة مهرجان جائزة الروح المستقلة لأفضل أول سيناريو و Blue in the Face. وآخر أعمال أوستر هي ليلة التنبؤ (2003)، حماقات بروكلين (2005)، ورواية رحلات في حجرة الكتابة التي لاقت استحسانًا كبيرًا .
كان لبول أوستر تأثيرًا كبيرًا في الأدب العالمي، حيث تُرجمت أعماله إلى العديد من اللغات وحازت على جوائز مرموقة مثل جائزة بوكر الدولية. ومع ذلك، فإن تأليفه ليس مقتصرًا على الكتابة الإبداعية فحسب، بل قدّم أيضًا مساهمات في النقد الأدبي وكتابة السيناريو وتحرير الأفلام.
بجانب كونه كاتبًا، يعتبر أوستر مفكرًا وفيلسوفًا، حيث استكشفت أعماله الفلسفية مواضيع مثل الصدفة والمعنى في الحياة والتشابك بين الحقيقة والخيال. تُعتبر كتاباته ذات طابع فلسفي تخطو خطوات بعيدة في استكشاف العوالم الداخلية والتحليل العميق للشخصيات والمواقف.
لذلك؛ بول أوستر هو كاتب متعدد المواهب والمتعمق في تفكيره، وأعماله تظل محط جذب للقراء والمهتمين بالأدب والفلسفة على حد سواء.
كان لحياة برا أوستر من كتاباته وصراعاته نصيب حيث كانت مأساته الكبرى في وفاة ابنه الأكبر دانيال حيث أعلنت الشرطة العثور على جثته ملقاة في محطة المترو نتيجة تعاطيه جرعة زائدة من عقار مخدر.
أي أن الكاتب الذي تناول الجريمة والفلسفة في كتاباته انعكس جانبًا كبيرا من خياله على واقعه،
خاصة بعدما وجهت له الشرطة اتهاما بقتل حفيده الرضيع الذي توفى هو الآخر إثر تناول جرعة من المخدرات والذي كان موجودا في ذلك اليوم مع أوستر في منزله والذي تعاطى جرعته اليومية ولا أخذ يعرف كيف وصلت المخدرات للصغير!
ثم اختتم حياته بعد صراع مع مرض السرطان لمده عام كامل وهزمه المرض ليسدل الستار عن أديب وفيلسوف ومخرج له بصمة وصدى كبير في عالم الأدب.

Comments (0)
Add Comment