د/ زمزم حسن
بين الله سبحانه أن من واجب الرجل النفقةَ على زوجته وعياله، وجعل ذلك حقا لها ولهم عليه – مهما كان فقيرًا أو كانت هي غنية موسرة- فلا يلزمها ولا يجب عليها نفقةٌ على نفسها ولا على أولادها وعلى زوجها من باب أولى، وإنما هذا هو واجبه {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}[البقرة:233]. وإنما تكون النفقة بقدر السعة والضيق، والغنى والفقر، فلا يقتر غني، ولا يطالب فقير بما لا يقدر عليه {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}[الطلاق:7].
وقال الإمام الطبري في قوله سبحانه {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}: أي: وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف، أي: بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن من غير إسراف ولا إقتار، بحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره.
ومقابل هذا الواجب أعطاه حق القوامة عليها، وأن تكون الكلمة عند التنازع إليه، وهذا أدعى لاستقرار البيوت، وأوجب عليها حق الطاعة له، فقال عز وجل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}[النساء:34].
فمتى قام الرجل بواجبه في النفقة من غير تقصير، وجب على المرأة طاعته في كل ما يأمرها به في غير معصية الله؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فعن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لعمر – رضي الله عنه -: ((ألا أخبرك بخير ما يكنز المرءُ؟ المرأة الصالحة؛ إذا نظر إليها سرَّته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حَفِظَته))؛ رواه أبو داود
وكذلك عليها أن تؤدي إليه حقه الخاص كاملا، وتتجمل وتتزين وتبذل جهدها في عفته كما ينبغي أن يفعل هو كذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا نظر إليها سرته)، وترعى بيته، وتربي ولده، وتغسل ثوبه، وتعد طعامه، وتحفظه في حضره وسفره في نفسها وماله.. وهذا فعل الصالحات كما نطق به القرآن الكريم: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ}[النساء:34].
فإن أبت طاعته، وأرعت سمعها للفاشلات، ولأصحاب دعوات الجمعيات النسوية، أو أعطت أذنها لمن يسمون زورا وبهتانا دعاة حرية المرأة وحقوق المرأة، فمنعت زوجها حقه، أو أساءت عشرتها معه، انتقلت من ركب الصالحات القانتات إلى صف العاصيات الناشزات.. فحق له عند ذلك أن يعاملها معاملة الناشز كما علمه الله، لعلها ترعوي وتثوب إلى رشدها وترجع إلى عقلها.
طريقة التعامل مع الناشزات
قد أخبر الله أن من النساء من سيستهويها الشيطان، وتدعوها نفسها لمخالفة أمر زوجها وعصيانه أو الامتناع عن حقه بغير عذر شرعي، فبين للرجل كيف يتعامل في هذه الحالة فقال سبحانه: {واللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا}[النساء:34].
فأول الأمر الوعظ: فعظوهن: أي ذكروهنَّ بحق الله عليهن فيكم ووجوب طاعتهن لكم، وخوفهن بعقاب الله تعالى للمخالفات أمره..
عن الحصين بن محصن رضي الله عنه (أنَّ عمة له أتت النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة ففرغت من حاجتها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أذات زوج أنت؟ قالت: نعم، قال: كيف أنت له؟ قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه، قال: فانظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك) [حسن. رواه أحمد]
قال الإمام المناوي: (انظري أين أنت منه) أي في أي منزلة أنت منه، أقريبة من مودته مسعفة له عند شدته ملبية لدعوته، أم متباعدة من مرامه كافرة لعشرته وإنعامه.. (فإنما هو جنتك ونارك) أي إنما زوجك سبب لدخولك الجنة برضاه عنك، وسبب لدخولك النار بسخطه عليك، فأحسني عشرته ولا تخالفي أمره فيما ليس بمعصية.
وقد أخذ الإمام الذهبي من هذا الحديث ونحوه أن النشوز كبيرة.
فإن رجعت بعد وعظها وتذكيرها فالحمد لله.. وإلا فينتقل معها إلى المرحلة الثانية وهي:
الهجر في المضجع: {واهجروهن في المضاجع}: أي في الفراش، فيوليها ظهره، وقيل لا يجامعها، وقيل بل يجامعها ولا يكلمها.. وقيل يغلظ القول ويقول هُجْرًا لعلها ترعوي.
فإن ثابت إلى رشدها وعادت إلى عقلها فبها ونعمت، وإلا فالمرحلة الثالثة وهي:
الضرب غير المبرح: {واضربوهن}: والضرب هنا ضربٌ حقيقة، لقوله صلى الله عليه وسلم (استوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشةٍ مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح)رواه الترمذي، فلا ينصرف إلى معنى آخر مما يحاول بعض الناس صرفه إليه، وإنما قال ضربا غير مبرح، أي لا تهيض عظما، ولا تهتك لحما، ولا تكسر سنا، فإنما هو ضرب تأديب لا ضرب تعذيب، المقصود منه أن تعلم أن الأمر قد بلغ حده ومداه، وأنه كاد أن يصل إلى منتهاه.
وخلاصة الأمر، أنه لا يجوز للزوج أن يضرب زوجته ابتداءً، وإنما يكون ذلك بعد الوعظ، وبعد الهجران، ويجب أن يكون الضرب غير مبرح، فإن الضرب المبرح حرام لما سبق في الحديث، قال عطاء: ” الضرب غير المبرح بالسواك ونحوه، وقال الحافظ ابن حجر: ” إن كان لا بد فليكن التأديب بالضرب اليسير”.
فإن قيل أيصلح بعد الضرب حياة؟ قلنا ما أقبح الضرب، ولكن إذا كان لاستمرار البيت وعدم الطلاق والفراق وضياع الأسرة، فهو علاج كالكيِّ، وقد قيل “آخرُ العلاجِ الكيُّ”، ولاشك أن الضرب لتستمر الحياة وتستقيم وتنصلح، خير من عدم الضرب مع هدم الأسرة وتفككها، وإنما هو كالدواء المرلا يؤخذ إلا للضرورة وللعلاج ولرد ما هو أعظم منه.
وبعد هذه المراحل لم يعد إلا خيار واحد وهو:
التحكيم: أن يبعث حكما من أهله، وتختار هي حكما من أهلها كمحاولة أخيرة للإصلاح وتقريب وجهات النظر ومحاولة لمنع البيت من الانهدام، والأسرة من التفكك، والأولاد من التشتت، ومحاولة للصلح والإصلاح {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا}[النساء:35].
فإن لم يفلح الصلح، لم يعد بعد ذلك إلا الفراق والطلاق، فإن تعذر الإمساك بمعروف، لم يعد خيار إلا التسريح بإحسان.