رانيا ضيف
يقول في قصته:”فلاح عجوز حمل زوجته المريضة في المقعد الخلفي من العربة التي يجرها حصان هزيل، حملها إلى المدينة البعيدة لعلاجها.
وفي الطريق الطويل، بدأ الرجل يتحدث،
يفضفض.. كأنما يناجي نفسه، ولكنه في الوقت نفسه يواسي زوجته المريضة التي عاشت معه طوال أربعين عاما في شقاء وبؤس ومعاناة تكد وتكدح، تساعده في الحقل، وتتحمل وحدها أعباء البيت.
الآن..
أحس أنه كان قاسيا معها طوال السنوات الماضية، وأن عليه، الآن، أن يعاملها بلطف ولين، وأن يُسمعها الكلمات الطيبة،
قال لها إنه ظلمها، وأن الحياة أيضا ظلمتها، لأنه لم يجد الوقت في حياته اليومية ليقول لها كلمة طيبة حلوة وعذبة، أو يقدم لها ابتسامة صافية رقيقة كالماء أو يعطيها لحظة حنان!
وظل الرجل يتحدث بحزن وأسى، طوال الطريق والكلمات تحفر لها في النفس البشرية.. مجرى كما يحفر الماء المتساقط على الصخر.. خطوطا غائرة -ليعوضها بالكلمات ـ عما فقدته خلال الأربعين عاما الماضية من الحب والحنان ودفء الحياة الزوجية وأخذ يقدم لها الوعود بأنه سوف يحقق لها كل ما تريده وتتمناه في بقية عمرها…
عندما وصل المدينة، نزل من المقعد الأمامي ليحملها من المقعد الخلفي بين ذراعيه لأول مرة في حياته إلى الطبيب ولكن وجدها قد فارقت الحياة.. كانت جثة باردة.. ماتت بالطريق.. ماتت قبل أن تسمع حديثه العذب الشجي!”
ربما أراد تشيخوف أن يوقظ ضميرنا الذي يبخس الآخرين حقهم في الكلمة الطيبة، أشار إلينا أن تقديم كلمة طيبة لمن يستحقها تعفينا من الشعور بالذنب والأسى باقي حياتنا، كانت كلمات بطل القصة كقبلة اعتذار على جبين ميت، لم يعد لها أهمية ولا جدوى. الكثير من الناس يحزنون لفراق أحبة ليس فقط لمكانتهم في قلوبهم لكن لأنهم أهملوا التعبير عن حبهم لهم طوال حياتهم، لم يؤدوا حقهم ولم ينتبهوا لهم فتظل كلمة النهاية تؤرق مضجعهم لباقي العمر.
الجدير بالذكر أن تشيخوف كاتب مسرحي وكاتب قصص قصيرة روسي وبرع ككاتب ساخر، يعتبر من أعظم الكُتاب على الإطلاق. أنتجت مسيرته ككاتب مسرحي أربع روايات كلاسيكية، وتحظى أفضل قصصه القصيرة بتقدير كبير من قبل الكتاب والنقاد،كتب المئات من القصص القصيرة التي اعتبر الكثير منها إبداعات فنية كلاسيكية، كما أن مسرحياته كان لها تأثير عظيم على دراما القرن العشرين.بدأ تشيخوف الكتابة عندما كان طالبًا في كلية الطب في جامعة موسكو، ولم يترك الكتابة حتى أصبح من أعظم الأدباء، واستمرّ أيضًا في مهنة الطب وكان يقول «إن الطب هو زوجتي والأدب عشيقتي».
طرح العديد من الموضوعات الاجتماعية
حيث دخل “تشيخوف” ككاتب مرح وخفيف الظل إلى عالم الأدب بقصصه القصيرة الهزلية والساخرة، ولكن يصعب القول بأنه تمكن من ذلك بسهولة. فقد كان كاتبا مجهولا بالنسبة لأصحاب الجرائد والمجلات في ذلك الوقت. وطُلب منه بالدرجة الأولى كتابة فصول مسرحية موجزة وقصص قصيرة جدا قادرة على إدخال المرح إلى قلوب القراء . ولو استخدمنا المصطلح الدارج الآن لقلنا بأنها كانت أشبه بلقطات الكاميرا الخفية.
سعى مؤلف”موت موظف” و”العنبر رقم 6″ باستمرار إلى الإيجاز والسرد المكثف. كان الإيجاز والموهبة أمران متلازمان ل”تشيخوف” الكاتب. من الطبيعي أن لا يكون الإيجاز ذاته صفة أكيدة ملازمة للموهبة، لأن الإيجاز يتطلب القدرة على قول الكثير بكلمات قليلة وإشباع الأحاديث القصيرة بمضمون داخلي غني. وهذا هو بالضبط ما كان يميز “تشيخوف” عن غيره من الكتاب. كان “تشيخوف” يتوصل إلى الإيجاز عن طريق الابتعاد عن إدخال عدد كبير من الشخصيات إلى قصصه والاكتفاء بشخصيتين أو ثلاثة. وحين يتطلب موضوع القصة زيادة عدد الشخصيات، كان “تشيخوف” يلجأ عادة إلى اختيار الشخصية المركزية ويصورها بإسهاب ويضع البقية كنماذج خلفية عديمة الأهمية، وقد كانت هذه الطريقة تسمح له بلفت الانتباه إلى محور القصة وجوهرها الأساسي.
كان “تشيخوف” يلجأ مرارا إلى فكرة توظيف قصة داخل قصة ومن هذه القصص:” عنب الثعلب” و”الرجل المُغلّف”. هذه الطريقة مكّنت الكاتب من طرح أفكاره بموضوعية وإيجاز في نفس الوقت.
استخدم”تشيخوف” لغة بسيطة وسهلة مفهومة لكل شرائح القراء. بساطة اللغة كانت نتيجة جهد الكاتب الشاق والمضني إذ يقول:” فن الكتابة يكمن أصلا في فن شطب ومحي السيء مما كتب”. حارب الكاتب بدون هوادة ضد كافة أشكال الكليشات المقولبة والجمل الجاهزة المألوفة. من جهة أخرى، سعى “تشيخوف” إلى خلق أشكالا كتابية جديدة وبسيطة. كانت تشبيهاته واستعاراته دائما حديثة وغير متوقعة. كان “تشيخوف” قادرا على لفت الانتباه إلى جانب ما هو جديد في موضوعاته لكنه مأخوذ من قبله كأداة فنية لم يلحظها سواه بنظرته الثاقبة!.
إليكم استعارة مأخوذة من مدونات “تشيخوف”:” التربة رائعة جدا إلى حد لو زرعت فيها رجلا ناحلا سينبت ماردا”. هذا هو قاموس “تشيخوف” الثري الذي يعرف كافة المصطلحات الحرفية ويسهل على القارئ، حسب لغة “تشيخوف”، معرفة مهنة ورتبة البطل الاجتماعية دون أن يشير الكاتب إلى ذلك سواء كان جنديا أو وكيل أعمال أو بحارا أو راهبا أو طبيبا.
ما يميز “تشيخوف” أيضا هو قدرته على الإضحاك والتحدث إلى القارئ بلغة الشخصيات ونفسياتها ولهذا صمدت أعماله أمام الزمن ويقرؤها الجميع بكل سرور حتى وقتنا الحاضر.
لقد بدأ “تشيخوف” بالأعمال الساخرة لكنه كتب أيضا قصص ذات طابع درامي. أغلبها تركز على حالة الأدب في ذلك الوقت كــ” ما نقرأه كثيرا في الروايات والقصص…” و” عمّات من مدينة تامبوف” .
وبين قصص “تشيخوف” نجد أيضا قصص جنائية كوميدية كــ”علبة الكبريت السويدية” وقصص عن الأطفال كـ”غريشا” و”الطباخة تتزوج” و”الصبي” وغيرها..
يمكننا القول بأن الكثير من أعمال “تشيخوف” كانت تربوية وهادفة بكل ما للكلمة من معنى. لقد كان يشير بجدية إلى التصرفات غير اللائقة وقلة اللباقة والعصبية والوقاحة في تعامل الناس فيما بينهم. ومازال تأثير “تشيخوف” من الناحية التربوية على القراء كبير حتى يومنا هذا.