عيد علي
اعرف عدوك واعرف ثقافة بلده ترى التاريخ يمر أمام عينيك نغوص ونبحر لنأتيك بالخبر اليقين وبين يدينا اليوم ما ينشر بالصحف العبرية والمكتبات الإسرائيلية لبناء فكر صهيوني على أسس علمية نتناول فى مقال اليوم كيف تحولت روضة أطفال في المغرب إلى مقر لقيادة الموساد
في الصباح مربية أطفال، وفي المساء عميلة للموساد- إنّها قصة حقيقية وليست فيلم تجسس
مُتّرجّم عن: شير أهارون برام
تخيّلوا الموقف التالي: تكلّفون بالسفر إلى دولة أجنبية، يطُلب منكم تأسيس روضة أطفال عبرية لأطفال الجالية اليهودية، وفي صباح أحد الأيام، تكتشفون أنّ الروضة التي أسّستموها- تحولت إلى قاعدة تدريبات للموساد، وأقيم فيها فرع للمنظمة السريّة اليهودية. هل تبدو لكم قصة من فيلم أكشن؟ ربما تكون كذلك، ولكنها قصة حقيقية، وهذا مجرّد غيض من فيض. تحدّثت بطلة القصّة فقط عمّا سمحت الرقابة بنشره: مع اقتراب نهاية عام 2022، نشرت لأول مرة قصة يهوديت يحزقيلي (غليلي)، “بعثة مصيرية”، حيث تحدثت عن التجارب المثيرة التي مرت بها في المغرب.
في عام 1954، كلّفت يهوديت غليلي بالسفر إلى المغرب من قبل قسم الثقافة والتعليم في الوكالة اليهودية. كانت مهمّتها بسيطة: تأسيس روضة أطفال إسرائيلية-عبرية في المغرب، وتعليم اللغة العبرية. في تلك الفترة، كانت غليلي تعمل كمدرّسة في بلدة هارطوڤ، والتي ساهمت في إقامتها، وفي أحد الأيام، وبينما كانت تنتظر القطار عودةً إلى مدينة القدس، أخبرها أحد أصدقائها بأنّ الوكالة تبحث عن مدرّسين للسفر في إطار بعثة إلى دولة المغرب. مع أنّ يهوديت كانت تجهل موقع الدار البيضاء على الخارطة، إلّا أنّها لم تتردد – وبتشجيع من أصدقائها، قررت قبول المهمّة التي كلّفت بها. بعد أن اجتازت جميع المقابلات ومسار القبول، تقلّدت منصبًا رسميًا في المغرب عام 1954، ولم تكن قد تجاوزت بعد سن 24 عامًا.
ولدت غليلي عام 1930 في طبريا، وترعرعت في نيشر. شاركت في صِباها في فعاليات الشبيبة العاملة والمتعلمة ونشطت أيضًا في كتائب الشباب “غدناع”. قبل سفرها إلى المغرب، شاركت في دورة تأهيل قادة عسكريين في القوات البرية الإسرائيلية التابعة للبلماح، قاتلت في عمليات عسكرية وأصيبت في معركة حيفا. في أيار 1948، انضمت إلى لواء هريئيل حيث عملت في مرافقة وإرشاد القوافل الأمنية.
كانت مهمّة يهوديت، على الأقل في بداياتها، جوهر النشاط الصهيوني خارج البلاد في تلك الفترة: استقطاب وتقريب يهود المغرب من البلاد، خاصة أبناء الطبقة الوسطى – الثرية، والذين ابتعدوا عن الفكرة الصهيونية وعن دولة إسرائيل. كانت الجالية اليهودية في المغرب أكبر جالية يهودية في البلدان الإسلامية. اعتاد اليهود المثقفون والأثرياء إرسال أبنائهم إلى مؤسسات تعليمية فرنسية بدلًا من الصهيونية، مثل الأليانس ومؤسسات تعليمية أخرى. جزء كبير من هذه الجالية، وقد تمركز العديد من ابنائها في الدار البيضاء ـ (حيث أرسلت يهوديت)، لم يفكروا قط في الهجرة إلى دولة إسرائيل. في تلك الفترة، كانت المغرب لا تزال “دولة واقعة تحت حماية” الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية – وشيكة الزوال. على الرغم من وقوع أحداث عنف معدودة (مثل البوغرومات في وجدة وجرادة والتي وقعت بعد إعلان استقلال دولة إسرائيل)، تمتّع اليهود في المغرب بقدر من الراحة النسبية تحت الحكم الفرنسي، ولكن دولة إسرائيل كانت تعلم أنّ حالة الهدوء لن تدوم طويلًا- ولذلك، أرسلت مبعوثيها لتقريب يهود المغرب من الفكرة الصهيونية، تحسّبًا لأي طارئ.
في السنة الأولى لهذا التكليف، سعت يهوديت لتأسيس روضة أطفال عبرية في الدار البيضاء، وإلى جانبها استوديو لتعليم اللغة العبرية. درّست اللغة العبرية في الروضة، وكانت العبرية اللغة المستخدمة في الروضة التي أدارتها يهوديت والمساعِدة تسيبورا، يهودية محلية تحدثت العبرية. اتبعت الروضة نفس نهج العمل الذي كان متبعًا في رياض الأطفال العبرية في البلاد، ووفقًا لنفس المنهاج. حضر الأطفال إلى الروضة في سفريات خاصة، وكانت معدات ولوازم الروضة عبارة عن تبرّعات قدّمتها جهات صهيونية في إسرائيل ومنظمة الجوينت. أقيمت الروضة في فيلا فخمة في الحي الفرنسي في الدار البيضاء، وخصّص فيها مسكن ليهوديت، والتي طوّرت خلال عملها علاقة وطيدة مع أهالي الأطفال من المجتمع المحلي، والذين كانت لهم لاحقًا مساهمة كبرى. تم لاحقًا تجنيد بعض الأهالي الذين أرسلوا أطفالهم إلى الروضة للانضمام إلى المنظمة السريّة اليهودية في المغرب – “همَسغيرت”. ابتداءً من عام 1954، كان عملاء الجهاز الأمني الإسرائيلي، وعلى رأسهم شلومو حافيليو، يكلفون بالسفر إلى المغرب، لفحص وتقييم وضع اليهود في الدولة. كانت المغرب تسعى لنيل الاستقلال، وكان على اليهود – الذين تحسنت مكانتهم خلال فترة الاستعمار الفرنسي – الاستعداد مجددًا للتغيير الوشيك. في الواقع، فإنّ المهمة الأصلية ليهوديت غليليت كانت مرتبطة بتحقيق هذا الهدف، إذ أنّ التشجيع على الهجرة كان أحد الطرق الرسمية التي اتبعتها إسرائيل للتعامل مع الوضع.
بعد مضي عام على بدء العمل، خرجت يهوديت في إجازة قصيرة. عند عودتها، كانت البلاد في حالة سيئة. فقد تم قبل ذلك نفي السلطان محمد الخامس، حدث في مصر انقلاب وفقدت المنطقة بأسرها أمنها واستقرارها. توقعت دولة إسرائيل انضمام المغرب إلى المعسكر المعادي لإسرائيلي، كسائر البلدان العربية، وساد القلق والخوف على حياة نحو 200,000 يهودي في المغرب. سرّع الموساد عملية تأسيس “همسغيرت”، المنظمة السرية اليهودية في المغرب، وبدأت خلايا المنظمة تنتشر سرًا في مختلف أرجاء الدولة. افتتحت إحداها داخل الروضة التي أسّستها يهوديت غليلي. كان يوم 16 تشرين الأول 1955، وهو يوم عودة ملك المغرب إلى بلاده، نقطة تحول بالنسبة ليهوديت. سعت المنظمة السرية في تلك الفترة لإيجاد غطاء تتستر خلفه، الاندماج بين عملاء الوكالة المخولين رسميًا بالتواجد في الدولة، وتم تجنيد سكان محليين في صفوفها. وعليه، وعند عودة يهوديت من إجازتها القصيرة، اكتشفت أنّ الروضة التي أقيمت في الفيلا باتت تستخدم لأغراض أخرى.
“عند صعود السلّم باتجاه غرفتي، سمعت أصواتًا غريبة صادرة عن الطابق الثاني (…). هممت بالانصراف بسرعة، ولكنني فوجئت برؤية أشخاص غرباء، وأعتقد أنّهم هم أيضًا ذعروا أكثر مما ذعرت أنا نفسي… كان من المفترض أن يكونوا عملاء “سريين”، تسللوا إلى المغرب كل على حدة، ولم يكن أحد يعلم بوجودهم هنا، وفجأة، يُكتشف مخبأهم أمام إسرائيلية مجهولة….”. هكذا استحضرت يهوديت غليلي لقاءها الأول بنشطاء المنظمة السرية اليهودية في المغرب. كان شلومو يحزقيلي، قائد الخلية ولاحقًا زوج يهوديت، أول من استعاد رباطة جأشه ودعاها للجلوس ومن ثم التحقيق معها بعد أن قدّم نفسه باختصار. “أجبت عن جميع الأسئلة كطفلة مطيعة، وفي النهاية، نفذ صبري. بنبرة غاضبة وواضحة، قلت مندفعة، ما هذه التحقيقات؟ من أنتم؟ بأي حق تدخلون الروضة؟ أنا أسكن هنا وهذه روضتي!”، كتبت يهوديت عن ذاك اللقاء. بعد هذا التعبير الحازم عن موقفها، كُسر الجليد، وفي نهاية المطاف، وجدت يهوديت نفسها مجنّدة للمنظمة السرية اليهودية في المغرب. وافقت على الانضمام مع أنّها لم تكن تعلم ما يدور، وذلك بعد أن اكتشفت أن أعضاء المنظمة يعرفون عنها كل شيء دون أن تنبس ببنت شفة.
في ذاك اللقاء الذي اقتحمته غليليت بدون قصد، قرر أعضاء “همسغيرت” الاستقرار في مبنى الروضة في الدار البيضاء، لتصبح الروضة بذلك مقرًا مؤقتًا للمنظمة السرية اليهودية في المغرب. تم تجهيز وتهيئة قبو الروضة ليصبح مخبأ الأسلحة الأول للتنظيم اليهودي، ومن ثم مقرًا للتدريبات، مقرًا لتفكيك وتركيب الأسلحة والوسائل القتالية ومقرًا للقاءات السريّة لضم المجندين الجدد. انتحل أعضاء المنظمة شخصية عملاء الوكالة، لتتحول المنظمة بذلك من ذراع صهيوني معترف به إلى جهة متداخلة عميقًا في نشاط الموساد. أصبحت يهوديت “المتعلمة” موردًا ثمينًا بالنسبة للمنظمة السرية. عملها كمربية أطفال أتاح لها المجال للتواصل مع السكان المحليين- ابتداءً من أهالي أطفال الروضة وحتى تلاميذ استوديو تدريس اللغة العبرية، الإصغاء للآخرين وفهم الأجواء السائدة- والأهم من ذلك كلّه- إيجاد عملاء محتملين يمكن تجنيدهم. تعلّمت يهوديت كيفية الكتابة بحبر سري وتجهيز مخابئ الأسلحة، تدرّبت على مختلف طرق جمع المواد والمعلومات واستخدمت الاسم المستعار- “نورا”. بالإضافة إلى المهارات أعلاه، أدّت يهوديت دور المبعوثة وهمزة وصل بين المجموعات المختلفة، وبدأت أيضًا بتزوير جوازات سفر لليهود الذين أرادوا الهروب من المغرب.
روضة الأطفال ومقر المنظمة السرية اليهودية
كيف سارت الأمور في الواقع؟ إليكم مثال: حضرت كارميلا، يونا وابنتهما أورلي- عميلا موساد وابنتهما- إلى المغرب كعملاء للوكالة واستقروا في الدار البيضاء. سجّلت الطفلة أورلي في روضة يهوديت، لتسهيل المحادثات بين يهوديت والزوجين. عندما كانت كارميلا تحضر ابنتها إلى الروضة صباحًا، كانت تترك ليهوديت رزمًا ورسائل مصنّفة، لتقوم يهوديت بدورها بتوصيلهما إلى وجهتها. كان يونا نائب شلومو يحزقيلي، قائد المنظمة السرية اليهودية، وكان مسؤولًا عن استلام الأسلحة، تخبئتها والتدريب على استخدامها. كان أيضًا متخصصًا في صنع مغلّفات مزدوجة ذات محتويات سرية. عندما كان يأتي إلى الروضة، كان يهتم بصنع مخابئ مختلفة داخل الفيلا، على سبيل المثال، داخل أصيص كبير أمام الفيلا حيث حفر تجويفًا لتخبئة المناشير. استُخدمت المخابئ لتشفير الرسائل وتخبئة الأسلحة. تزامنًا مع ذلك، أصبحت يهوديت هي أيضًا جاسوسة: كل محادثة مع أهالي أطفال الروضة أصبحت مصدر معلومات تم تمريرها لأعضاء المنظمة السرية. من بين طالبات استوديو تدريس اللغة العبرية، كانت هناك فتيات ونساء عاملات في مكاتب حكومية أو لدى مسؤولين قياديين في مؤسسات مختلفة، وتم تجنيدهن هن أيضًا لجمع المعلومات. استخدمت الروضة أيضًا كمقر لإرسال ممتلكات العائلات اليهودية التي لم يتمكنوا من أخذها عند الهجرة، وفيه شبكة لاسلكية بين المغرب وفرنسا. تدربت في الروضة خلايا سرية لا تعرف شيئًا عن بعضها بعضًا، وكانت فيها أيضًا مناطق تُفتح وتُغلق عند سماع كلمة المرور الصحيحة. تجدر الإشارة إلى أنّ الروضة تابعت نشاطها الاعتيادي إلى جانب هذا النشاط السري.
في بداية حزيران 1956، أصدرت السلطات في المغرب قرارًا بتقليص نطاق النشاط الصهيوني في البلاد. حتى إغلاقها نهائيًا، تابعت روضة غليلي نشاطها مكتملة العدد، إلى جانب كونها مقر المنظّمة السرية “همسغيرت”. بعد إغلاقها، انتقلت المنظمة السرية اليهودية للعمل في مناطق أخرى ومن أماكن مختلفة. لم تغادر يهوديت غليليت المغرب، ولكنها تابعت نشاطها في مخيم المهاجرين “مازاغان” بجوار الدار البيضاء، إلى أن اضطرت لمغادرة البلاد. تابعت لاحقًا نشاطها من مرسيليا من أجل يهود المغرب.
تزوجت لاحقًا من شلومو يحزقيلي، قائد “همسغيرت” في المغرب، والذي التقت به للمرة الأولى في ذاك اليوم المصيري. تابعا معًا نشاطهما الأمني، الاستخباراتي والجماهيري الإسرائيلي في باريس بين 1960 و 1964. سكنا لاحقًا في أفريقيا في إطار منصب رسمي، ومن ثم عادا إلى البلاد. عملت يهوديت في التربية والتعليم والكتابة، وإلى جانب نشاطها التربوي، عملت في الرسم، النحت، تأليف القصص وإنتاج الأفلام. أصدرت تسعة كتب وعشرات المقالات، نظّمت معارض وأنتجت ثلاثة أفلام. فازت خلال حياتها بعدة جوائز، أنجبت من زوجها شلومو غليلي ثلاثة أبناء وأسّست عائلة في إسرائيل
هكذا عزيزي القارئ يتم سرد القصص ليتعلم منها أبناء صهيون من قصص محبوكة تكون نبراسا لهم وترسم لهم طريقا نحو اسرائيل الكبرى فوجب علينا نعرف كيف يفكرون وكيف يربون أجيالهم جيل بعد جيل . انتظرونا مع المقال القادم غدا ……..