ناريمان علوش
في زاوية من إحدى مكتبات جرير في السعودية التي كنت أزورها يوميًّا، كنت أجلس برفقة كتاب أختاره بعد أن أتمشى بين الرفوف متتبعة حدسي، فأختار ما يجذب فضولي وشغفي، وكلّما أسرتني الصفحات الأولى للكتاب أتوجّه صوب الصندوق لأدفع ثمنه وأصطحبه معي كأنيس وجليس لي في وحدتي.
وفي مرّة كنت أبحث عن كتاب لميلان كونديرا، فسألت أحد الموظفين في المكتبة، وقد لاحظت وجوده للمرة الأولى. فلطالما كنت أشعر انني الوحيدة في المكتبة.، لا زوّار ولا موظفين وكأنني الزائرة الوحيدة التي تملك كل تلك المساحة، بينما في الحقيقة كانت المكتبة مكتظة بكل هؤلاء.
سألته :
– هل كتاب “الحياة في مكان آخر “موجود؟
وقبل أن يجيب توجّه مباشرة صوب الرف الذي يؤوي الكتاب وكأنّه يحفظ مكان كل كتاب موجود في المكتبة، فتبعت خطواته، وحين توقّف أمام الرف تناول الكتاب ثمّ أعطاني إياه قائلًا:
– يوميّا في نفس الموعد تأتين وتجلسين في نفس المكان لا رفيق لك سوى الكتاب، وقد خاطبتك عدّة مرّات بينما كنتِ تقرأين لكنك لم تلاحظي وجودي ولا كلماتي.
اعتذرت عن ذلك وشكرته فسألني:
– هل أنتِ لبنانية؟
أجبته:
– نعم.
تابع:
– انا يمنيّ وأعمل هنا منذ سنوات طويلة. ألهذه الدرجة تحبّين الكتب؟
قلت له مستغربة :
– ألست معتادًا على رؤية عشّاق الكتب هنا؟ فلماذا الاستغراب؟ ألا تحب الكتب أيضًا ؟
أجابني:
– أحبّ الكتب وأكره الكتّاب.
شعرت بالفضول لمعرفة السبب فسألته:
– لماذا؟
أجابني :
– إن معظم الكتّاب منفصلون عمّا يكتبونه ولا يشبهونه. أعطيكِ مثالا الكاتبة والفيلسوفة الفرنسية سيمون دي بوفوار مؤلفة كتاب الجنس الآخر الذي يعتبر من أهم الكتب في الحركة النسوية الغربية، بينما رسائلها إلى حبيبها الكاتب الأميركي نيلسون ألغرين تثبت عكس كلّ ما كتبته ودعت المرأة إليه. ففي إحدى رسائلها قالت له:
إني مستعدة لأن أطبخ لك يومياً، وأن أكنس المنزل، وأغسل الصحون. أريد أن أكون لك زوجة عربية مطيعة.
قلت له:
– يحدث كثيرا أن تبتلع الفكرة كاتبها، وذلك إذا لم تكن متجذّرة في أعماقه، وما لم تكن الفكرة مصدرًا لذاتها وربّما هذا ما حصل مع سيمون دي بوفوار وبخاصة أنّ حياتها الخاصة كانت تشوبها الكثير من التصرفات العارية من المبدأ، كتعدد علاقاتها والاتفاق الذي عقدته مع عشيقها جان بول سارتر حول حرّيتهما في إقامة علاقات عابرة. كما أنّني أعتقد أنّها تعمّدت عدم إخفاء تلك الرسائل التي تتعارض مع أفكارها النسوية، وربّما أرادت بذلك أن تثبت أنّ حقيقة النفس البشرية أعقد بكثير من الأفكار التي تطرحها حتى لو كانت لفيلسوف أو مفكّر.
نظر إليّ مبتسما ثمّ قال :
– بكل الأحوال، انا اجزم انّكِ كاتبة. وأعتقد أنّ الأمر سيكون مختلفًا الآن، فقد لمست جمال الكاتبة الداخلي قبل أن أتعرّف إلى كتاباتها. وأعتقد انّها لن تختلف عنكِ.
ومنذ تلك اللحظة، كلّما أنهيت كتابة نصّ ما، أقفلت فم الفكرة كي لا تبتلعني، وأضرمت في المعنى رؤية عميقة مؤدّية إلى ذاتي.
رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرية