ثلاثون عاما  

 

بقلم / د.مايسة إمام

دق جرس الباب يحمل في راحتيه خطاب التعيين للوظيفة التي تقدمت لها منذ ثلاث سنوات وتجرعت خلالها مرارات الانتظار حتي تسلل اليأس الأفعواني لنفسي ، ولكن حانت اللحظة و هاهي قطرات الأمل تبعث الروح في رفات أحلامي المتناثرة

شددت الرحال لاستكمال الأوراق الرسمية المطلوبة للتعيين

وحين خطوت أولي خطواتي داخل المبني الحكومي الجديد الذي ينبعث بريق نوافذه الزجاجية الملونة يداعب أشعة الشمس مداعبة ملهمة تمنح المكان مزيد من الهيبة

دلفت للداخل ليستقبلني مسئول الأمن بزي أنيق ووجه باش يشير إلي بالوجهة التي أرغبها وهو يمد يده إلي قائلا :

زهرة لكل مواطن

بدأت طاقتي السلبية المتمركزة بالتراجع تدريجيا أمام ذلك الاستقبال المبشر وتنفست بعمق

اتجهت نحو السلم الذي يحملني للمستقبل فإذا بشخص يهتف قائلا : المصعد هنا ياأستاذ ويمد يده قائلا :

زهرة لكل مواطن

انشرح صدري انشراح الآملين وهبت دماء أوردتي من سباتها العميق تمدني بالحيوية والنشاط وأنا ارتفع وارتفع مع المصعد

توجهت لإحدي الغرف أسأل عن الموظف المسئول ولساني يلهج بالتسبيح والحوقلة وصوت دقات قلبي يجاوز قرع طبول الحرب وكيف لا وأنا وجها لوجه في مواجهة مارد الروتين اللعين قاهر المطحونين

قدمت له الأوراق بيد متوترة فابتسم الموظف وقال : لا حاجة لي بكل هذه الأوراق أريد فقط إثبات الهوية فالاجراءات لدينا جميعها مميكنة وانطلقت أصابعه نحو مفاتيح جهاز أمامه تعزف أجمل مقطوعة موسيقية سمعتها في حياتي وماهي إلا لحظات وأعاد لي إثبات الهوية والابتسامة لم تفارق وجهه وهو يقول :

تحت أمر حضرتك تم التسجيل وتثبيت المعلومات يمكنك التوجه لمقر العمل غدا لاستلام وظيفتك ومد يده بزهرة جميلة وهو يقول :

زهرة لكل مواطن بالتوفيق بإذن الله

لم أتمالك نفسي من السعادة وسجدت على الأرض شكرا لله ودموعي تنهمر تزيل عفن اليأس القابع في نفسي منذ سنوات وتمزق خيوط الفكر العنكبوتية السامة التي عششت بداخلي

حتى هرمت

وجدتني اندفع بتلقائية طفولية نحو الموظف احتضنه واصافحه بحرارة وجناحات السعادة تحملني نحو الباب لأغادر

عدت لبيتي وبداخلي مزيج من المشاعر الملونة بألوان الربيع الغائب ، ارتميت بالفراش احتضن وسادتي التي تجعدت ملامحها كأيامي المارقة ، وسادتي التي طالما ارتوت بدموعي وواست وحدتي فصارت اليوم باقتسام فرحتي

دفعتني تلك الحالة الاستثنائية أن اتوجه لدورة المياه للاستحمام وإزالة ماعلق بي من أطلال السنين العجاف وتهذيب ذقني التي أهملتها منذ فترة طويلة

استقبلتني المرآة المكسورة علي الجدار باستغراب ودهشة وأنا اتفحص نفسي فيها بانتشاء وفخر وكأني اتعرف علي ملامحي

للمرة الأولي

وظهر لي انعكاس صورة منيرة أختي خلفي تنظر متساءلة :

ماذا تفعل ياعامر ؟

فغردت أحبالي الصوتية وهي تجيب : أهذب دقني ثم استحم فغدا أذهب لاستلام العمل الجديد لقد انهيت كل شئ اليوم والحمد لله وبدأت أحكي لها عن يومي السعيد منذ الصباح وحتي المساء كطفل يروي مغامرات أول أيامه في المدرسة

وهي تنظر إلي بتركيز وتنصت باهتمام ثم استدارت وهي تقول : بالتوفيق ياعامر

توجهت نحو أخيها علي الذي يشاهد التلفاز بصحن البيت وهي تقول : منذ متي لم يتناول عامر دواءه ياعلي ؟

علي : منذ أسبوع تقريبا يرفض تماما وكلما حاولت اقناعه زاد رفضه وزاد غضبه حتي كاد يضربني

أطرقت منيرة رأسها المثقل بالهموم وهي تتمتم : مسكين ياعامر يستعد لاستلام الوظيفة التي انتظرها منذ ثلاثين عاما لم ينتبه لغابة الثلج الأبيض التي كست رأسه واحتلتها كما احتل الزهايمر عقله

 

تمت

ثلاثون عاما
Comments (0)
Add Comment