بقلم شيماء شكري عن قصة حقيقية داخل دار للمسنين
تزوجت بعد أن أتممت دراستها الجامعية وتقدم لخطبتها خيرة من دفعت به كلية الطب،
وتم الزفاف السعيد وأنجبت ولدين وبنت، ثم فجأة في حادث مروري مروع سلم الزوج روحه إلى بارئها، لتجد نفسها بأولادها الثلاثة وحيدة رغم التفاف الأهل من حولها،
عملت بالتدريس وعكفت على تربية أبنائها الثلاثة كما يقولون
“كسرت شبابها عليهم”
وتخرج الأول والثالث من الهندسة، وتخرجت الفتاة من الطب، ثم زوجتها الأم بحر مالها، وهاجرت الفتاة مع زوجها إلى إحدى الدول الخليجية، وتبعها أخاها الأكبر بعد أن زوجته أمه،
وظلت الأم مع الابن الأصغر فزوجته بمن أرادها، ولم تحمله الأم حمل أي شيء حتى أنه عاش معها في منزل الأسرة، منزل الأم، لتمر أيام العسل وتفيق الأم على أنياب زوجة ابنها الصغير،
اعتادت زوجة الابن معاملتها بقسوة، وأمام زوجها تُظهر بمظهر الملاك البريء،
و أُرغمت الأم على الانتقال للغرفة الأصغر في المنزل، ولم تشكي ولم تفصح عن فزعها،
واعتادت أيامها السواد والقهر، حتى أن زوجة الابن بدأت في إظهار سوء معاملتها أمام الزوج، ولكنه لم يكن يبالي حتى لا يُحرم من قبلاتها وأحضانها المسائية،
كان يرى أنه إن تدخل سيعكر صفو الشيطانة زوجته،
وضاق الخناق على الأم حتى أنها لم تسمح لها بتناول الطعام معهم، وتكتفي بإلقاء كسرات من الخبز دون ملح لها على أرض الغرفة الخانقة لتزيد من إذلالُها،
ولكنها لم تشتكي أبدًا،
ولم يكن يهون عليها سوى رؤية ابنها وطفليه.
حتى في أيام الصيف التي كانت تختنق فيها وحدها داخل الغرفة الضيقة العفنة، لم يكن يهتز له جفن فالمهم عنده رضاء الزوجة الملعونة،
وكان يسافر بالزوجة والأطفال لقضاء إجازة الصيف دون أمه،
ولم يكن حتى يُبالي إن كان بالبيت كسرة خبز لها أو لا.
وفي ليلة حرمته زوجته منها نافرة قالت له أنها تضيُق أفقًا بوجود أمه بالبيت، وقالت له:
-لتذهب بها إلى دار العجزة، فما حاجتنا لها، كفانا هذا العمر كله.
وظلت تلتف كالأفعى وتوسوس في أذنيه،
حتى جاء يومًا وقال لأمه:
-أحضري ملابسك سوف نسافر لقضاء إجازة الصيف.
فرحت المسكينة، وأحضرت ملابسها المتهالكة من آثار الزمن عليها،
وأستعدت فوجدته يخرج بها وحدها دون الزوجة والأطفال، فقال لها:
-سيلحقونا بعد يومين، وهي فرصة لنجلس سويًا دون شجار وإزعاج.
وأجلسها بجواره في السيارة، ولم يستغرق على الطريق سوى نصف ساعة وتوقف ثم أشار لها أن تنزل وأن هذا المكان مقصده،
فنظرت حولها باستغراب وقالت
له:
-أين المصيف هذا يا بني؟، مازلنا بداخل نفس المدينة.
فتأفف ونزل من السيارة يتفوه بألفاظ غير مسموعة،
أو هي أرادت أن لا تسمعها بالأصح، وأنزلها بعنف ممسكًا بيدها بإزدراء.
فنظرت حولها، ورفعت عينيها أمام المبنى لتجد لوحة متهالكة عليها اسم لم تستطع قرائته من دون نظارتُها الطبية، ولكن عندما حدقت بعينُها وصلت لأخر الاسم الذي وجدته
“دار مسنين”
كانت الكلمة كفيلة لتخترق قرنية عينيها وتقرأها واضحة،
فجعت من هول الصدمة، ولكن الابن لم يبالي جرها من ذراعها الملئ بآثار حقن الأنسولين،
وقال لها:
-هذا مكانك الأفضل لنا جميعًا، لم يتسع لكِ مكانًا غيره شئتِ أم أبيتِ.
فنكست رأسُها ودخلت بإرادتُها المرغمة.
و ظلت صامتة طوال خمسة أعوام كاملة،
لا تتحدث سوى في أحلامها التي تحتضن فيها أبنائها الثلاثة وتُصبر قلبها المولع لرؤية أبنائها رغم علمهم وإتفاقهم على إلقائها بدار المسنين.
(لم تتحدث طيلة خمسة أعوام)
هكذا أفصحت العاملة بالدار عندما سُئلت عن تلك المرأة الحزينة المكسورة.
خمس سنوات لم يتحرك فيهم لسانها إلا في مساعدة أسنانها لمضغ كسرات الخبز التي كانت تبتلعهم بالماء لخنقة حلقُها وجفافه من الحُزن وكتم الدموع والصراخ،
حتى أقتحمت العاملة سكون العجوز المسكينة، فقصت عليها سنين عمرها المُتسرسب،
ودُهشت العاملة من حنين الأم المهجورة لأبنائها،
كيف لقلبها أن يحن بعد هذا الجفاء وتلك القسوة.
عاشت الأم المهجورة خمسة عشر عامًا أخرى في نفس المعاناة، ونفس ضيقة الحلق وجفافه حتى مع إنسياب دموعها التي لم تُبلل حلقُها،
حتى جاء يوم مرضها الذي أستمر لثلاثة أيام متتالية، لم تنطق سوى ب
-قولوا لولادي يجوا أشوفهم ويمشوا تاني، أشوف ولادهم بس، أملي عيني منهم.
وكأنها كانت تستأذن الموت المُنتظر في أركان غُرفتها بالدار،
ولم تنم المكالمات الهاتفية مع الأبناء الثلاثة إلا عن الجحود وكان ردهم:
-أحنا مش فاضيين وفينا إللي مكفينا.
-لما أفضي هبقى أجي.
-مش هينفع أنا عندي شغل لما أفضى هاجي.
دخلت عليُها العاملة ناكسة رأسُها تحبس الدموع بعينيها تتحاشاها بيدها وتشهق بكتمان وتقول لها:
– محدش بيرد لما يردوا هنبلغهم، وأكيد هيجوا جري عليكِ.
فنظرت لها الأم نظرة حسرة وثقة من رد أبنائها بالرفض والانشغال،
وأشاحت بنظرها لجانب من الغرفة وكأنها تأذن للموت أن يأخذها.
فاضت روحها إلي ربها، وترحم عليها جميع من بالدار حتى جدرانه،
طالبين لها الجنة ونعيمُها.
ولم يُعرف حتى الآن مصير الثلاثة أبناء.