القاهرية
تراث الأدب العربي يزخر بالعبر والعظات وبين أيدينا اليوم قصة من أروع القصص التي دارات أحداثها فى عصر العلم والنبوغ الأدبي والفقهي
تمتع الأصمعي بشهرة واسعة فقد كانت الخلفاء تجالسه وتحب منادمته، وقد هيأت مجالس الرشيد له أن يذيع صوته في كل الأوساط والمحافل الأدبية فسعى يجمع الأخبار والأشعار، ويدقق في اختياره لها وفي إنشاده، بحيث دفعت هذه الشهرة الرواة أن يضعوا أخباراً وأقوالاً تنسب إليه.
ومما يبرهن على شهرته الواسعة، وتفوقه على أقرانه ما نراه من غالب المصنفين الذين جاءوا من بعده يستقون ثروته اللغوية والأدبية. كما أن كتب اللغة والأدب قد جمعت الكثير من الأخبار والأشعار التي يرويها، وكان يعلل شهرته بقوله: وصلت بالعلم، وكسبت بالملح.
القصة :
يقول الأصمعي أنه ذات يوم توجّه إلى مأدبةٍ مليئة بأصناف كثيرة من الأطعمة، وإذ بأعرابيٍ آتٍ من بعيد، كي يجلس على هذه المائدة من غير دعوة، وأثناء تفحّصه للطعام، مدّ يده لالتقاط “السمن”، وأثناء رفعه له، سال السمن من بين أصابعه وامتزج مع الغبار الذي كان يملأ يديه أيضًا، فانتبه الأصمعي لما حصل، وأراد إضحاك القوم الجالسين عليه فقال: كأنك أثلة في أرض هش * أتاها وابلٌ من بعد رش فالتفت الأعرابي إليه وعيناه موقدةً بالاحمِرار، فردّ قائلًا: كأنك بعرة في إست كبش * مدلاه وذاك الكبش يمشي أحداث قصة الأصمعي والأعرابي تعالت ضحكات الجالسين على الأصمعي حتى انحرج، فردّ على الإعرابي متسائلًا: “كأنك تجيد الشعر؟”، فردّ عليه الأعرابيّ قائلًا: “كيف لا أجيده وأنا أبوه وأمه”، فردّ الأصمعي: “عندي قافية تريد عطاءً فغصت في بحار العربية فما وجدت أصعب من قافية من الواو الساكنة”، ثم بدأ الأصمعي بسردِ البيت الآتي. قوم بنجد عهدناهم :::سقاهم الله من النو ثم سأل الأعرابي: “أتدري ما النو يا أعرابي؟”، فردّ الأعرابي قائلًا: نو تلالا في دجى ليلة * حالكة مظلمة لو فعلّق الأصمعي: “لو ماذا؟”، فجاوب الأعرابي: لو صار فيها راكب لانثني * على بساط الأرض منطو ثم قال مرة أخرى: منطوي الكشح قليل الحشا * كالباز ينقض من الجو فحاول الأصمعي تصعيب الأمر بأسئلته فعاود الأعرابي الجواب: جو السما والريح تعلو به * اشتم ريح الأرض فاعلو. عاود الأصمعي السؤال: أعلو ماذا؟، فردّ قائلًا: اعلوا لما عيل من صبره * يا صاح تفهم أو فعاودَ الأصمعي السؤال، وكان جواب الأعرابي: أو أضرب الرأس بصوانة * تقول في ضربتها قو ثم صمت الأصمعي خوفًا من أن يسأل قو ماذا؟، فيضربه الأعرابي بالصحن.
نهاية قصة الأصمعي والأعرابي تعدّدت نهاية القصة، إذ يُحكى أن الأصمعي استسلم ولم يُكمل الأسئلة خشيةً من غضب الأعرابي، وفي روايةٍ أخرى يقال أنه سأل الأعرابي “قو ماذا؟”، فردّ الأعرابي قائلًا: القو في الرأس له نفخة * يبين من أثارها الضو لذا سكت الأصمعي؛ كي لا يضربه الأعرابي، لكن الأصمعي انتبه لبلاغة الأعرابي في الشعر، فدعاه إلى منزله وكانت زوجة الأصمعي قد ذبحت دجاجة، وكانت العادة وقتها أن يُقدّم الطعام للضيف كي يقسّمه بين الجميع. باشر الأعرابي بالتقسيم فقال: “الرأس للرأس، فأعطاه إلى الأصمعي، والرقبة للعتبة، فأعطاها للزوجة، والفخذين للولدين، والجناحين للبنتين، أما الباقي للضيف، وهنا شعر الأصمعي بالحرج، فطلب من زوجته ذبح خمس دجاجات في اليوم التالي، ثم طلب من الأعرابي التقسيم مرة أخرى. فخيّر الأصمعي وسأله: “تريد شفعًا أم وترًا”، فردّ الأصمعي أنه يريد الوتر، فردّ الأعرابي: “أنت وزوجتك لكم دجاجة، وابنتيك دجاجة، وولديك دجاجة، فردّ الأصمعي قائلًا “أريد شفعًا أقيلك والأقبل بعد الإقالة”. قبِلَ الأعرابي، فردّ قائلًا “أنت وابنيك ودجاجة أربع وزوجتك وبنتيها ودجاجة وأنا وثلاث دجاجات ولله لا أقبل إلا هذه القسمة” ثم أخذ الثلاث دجاجات وذهب.
العبرة من القصة مهما بلغت درجة علمك لاتستهين بمن هو أقل منك علما
رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرية