متابعة عبدالله القطاري من تونس
يومي كأمسي وغدي لا يعلمه الا الله ، والمعاناة تتجدد مع إشراقة كل يوم جديد : ماذا سأفعل لأقتل الوقت قبل أن يقتلني الفراغ ؟ من قبلُ وهبت كل وقتي وتفكيري ومهجتي لشغلي . آمنت بأن العمل عبادة ودافعت عن مبدئي بكل ضراوة . وحينما زحف بي الزمن نحو نهاية علاقتي بالشغل اكتشفت وهم التعلق بالشغل والتضحية من أجله بكل شيء . رسمت لحياتي النشيطة ممنوعات : لا للسهر .. لا للمقاهي .. لا للصداقات الموسعة ..لا للاقتراض من أجل التفرهيد والتصييف .. لا للسيارة فهي وحدها عائلة ثانية .. لا للعمل الجمعياتي فهو مضيعة للوقت ..لا ، لا ،لا …والقائمة تطول .
استبدّ بي هاجس العمل واستولى على وعيي ولا وعيي ..حسبتني مخلدا فيه لا أفارقه .. فيروس سكنني و استعمرني و برك بكلكله على صدري وأنا مستسلم طواعية . صممت أذنيّ عن كلّ نصيحة نبّهتني لأنجو بنفسي من براثن الاختيارات الخاطئة . كنت كالدّابة التي يوضع حول عينيها حاجز جلديّ يحدّ حقلها البصريّ حتى لا تنظر يمينا أو شمالا .وعندما أزيح ذلك الحاجز اتسع الحقل البصري و تعدّدت الدروب والمسالك و اضطربت إبرة البوصلة وجُنّت حركتها عاصفة بما مضى .. ما العمل ؟ جاءني قاتل الروح وليس لديّ أين أروح ! أُحِلت على التقاعد فأحسَسْتني ميتا قاعدا .اشتهيت الموت في عامي الأول ” موتي خير من حياتي . ما نفعي وأنا أعيش على هامش المجتمع لا أفيد !؟ ” ثمّ استغفرت وتبت الى الله . الحياة تستحق أن نعيشها ، و المواقف تتعدل في كل مرحلة . واجهت نفسي بعد ترويضها و تسكين ألمها و قلت لنفسي في مرآتها : ” ماذا سيخسر العالم بموتي الذي اشتهيته ؟ ” لا شيء . ( أنقص كلب ، أزيد عظمة) ..أنّبت نفسي على استرخاصي ، فأنا أفضل من الكلب مع احترامي للكلاب ذات الوفاء .. أصبحت حياتي ملحمة تزداد حلقاتها يوما بعد يوم . أزيلت الغشاوة و رأيت عيوبي . العالم المثاليّ لا وجود له في الواقع ، والواقع يتطلب أن نعيشه بكل تناقضاته ، فالأشياء تُعرف بأضداها ومن لم يشْق يوما لن يعرف الهناء دهرا ! و أهويت بفأسي على جذوع نخرة متآكلة و تبنّيت شعار ” الممنوع مرغوب ” .الخروج من ستين عاما من العزلة يحتاج الى تدمير الأصنام بداخلي ( التابُوات التي صنعتُها بيديّ ) .كلما كسّرت صنما انفتحت كوّة أخذت تكبر وتكبر حتى تدافعت الأضواء وغمرتني و بيّضت جدراني المسودّة ورسمت ظلالا لرؤى هي مفاتيح الخلاص والنجاة من روتين قاتل . احتكمت الى بوصلتي المعدّلة و عدّلت مساري على وقع واقعي المعيش الجديد . القيم التي لا تناسب المرحلة يجب أن تتغير إن لم تُنسَف .والمعايير المحكَّمة بالعقل هي التي تحدّد سبل المرحلة الجديدة . لمَ لا أتخذ في المقهى مجلسا مع رفقة طيبة أرتضيها لنفسي أفيدها وأستفيد منها ؟ المقهى ليس عالما سيّئا كما صورته لنفسي .والتفرهيد والتصييف حق لجسد أرهقه العمل و أُنسِيَ متع الحياة .والقروض تيسّر حياتنا في وضع اقتصادي خانق ، ومن منا موش عايش بالرّوج !؟ والأهم من ذلك كله ” التصالح مع الذات ” ..كم كنت عدوّ نفسي ! ما أهون العمر أن نضيعه في الشغل فقط ، حتى اذا انقطع حبله و أُحِلنا على التقاعد نجد أنسفنا نِسْيا منسيّا . ذاكرة الناس قصيرة و نُكراهم للآخر عميق وموجع .
العمل الجمعياتي !؟ قبوله اضطراريا محفوف بالأشواك ، إما تناغم واتّساق ، وإما اصطدام وافتراق . صعب أن يدخل من بلغ الستين في جمعية يكون فيها مقودا محكوما بقوانين ملزِمة بعد أن كان قائدا لنفسه في سفينة هو رُبّانها . قد تقولون ” الإنسان مدنيّ بطبعه ” ، أقول: نعم ، ولكن عندما يتأهل المُسيّرون للجمعيات ذات الصلة بالمتقاعدين و يستوعبون “علم نفس الكهول” لضمان التواصل الجيّد مع منظوريهم .
نحن محكومون بالتغيّر لأن سيرورة الحياة تتطلب ذلك .هو تغيّر نابع من الذات دون تسلط الآخر وتأثيره . والمتقاعد شأنه شأن أي فرد في المجتمع له حق الحياة الكريمة والتفاعل مع مجتمعه بما يفيده ويعود نفعه عليه . ولا تتشابه الوضعيات الحياتية للمتقاعدين فهم مختلفون في نوع الشغل الذي أفنوا فيه شبابهم و في نوعية الفكر والثقافة و الانتماءات . وأرى أنّ الجمعيات المعتنية بالمتقاعدين تنجح أكثر حين تضمّ متقاعدين من نفس الاختصاص فبعضهم لا يتوافقون مع غيرهم لاعتبارات موضوعية .
هذه ورقة من يوميات متقاعد أعرضها عليكم ولكم حرية الردّ والتعليق .
بقلم المتقاعد : شفيق بن البشير غربال / صفاقس
2 أوت 2023