بقلم محمود أمين
يضع المؤلف جسورًا من العلم غفل عن معرفتها معظم المريدين؛ واستبان بمعانيها طرقًا لا تظهر لأي سالك كان، وعرض أفكارًا كالنجوم ظاهرة ولكن لكل واحد في الدنيا نظرته لهذي النجوم، والآخذ بحسنها يتأمل جمال الخالق. يسرد تأملات في علم الأقدمين، واجتهاداتهم في الأعمال التي كان يميزها الإتقان.
والكاتب لا يكتفي بظاهر الأمور ولا يصف جمال العمل الخارجي ومرده على الآخر والمجتمع فقط؛ بل يسبر غورها ويقتحم غبارها، ويأتي لقارئه بالحكمة الصافية لا يشوبها شائبة، فأنت أمام الفصل الأول المعنون بجسر من التعب: وهو بداية البدايات وقُمرة الناظر لعالم من الحكمة فُتح لتوه سينقلك ويقدح ذهنك لتجربة عميقة في المعارف الدقيقة لفروع العلم والإيمان. قد بث في الفصل أنه لا يُستطاع العلم براحة الجسد وكيف ينام المرء عن أعماله ومذكراته التي دونها وخطط لتنفيذها في أسرع وقت إلا أنها باتت طريحة في درج مكتبه تتأوه من فرط تركها، والعلم قد كتب الله على تحصيله التعلم ولا يكون التعلم إلا بالسعي والمثابر والتعب في التحصيل، ونقص الجدية في التحصل يجعله هباء منثورًا، والمؤلف يأخذنا لأثر رُوي عن الإمام مسلم أنه في صحيحه وبين أحاديث الصلاة التي جمعها؛ كتب هذا الأثر الذي يعد إجابة وإلتفاتلًا لما يدعو إليه الإمام ويحرض عليه طلابه وهو: (لا يُستطاع العلم براحة الجسد)، ويقتبس المؤلف تعليق القاضي عياض في كتابه إكمال العلم إذ يقول: فكثير من يسأل عن ذكره (أي الإمام مسلم) هذا الخبر في هذا الموضع، وليس منه، ولا من حديث النبي عليه الصلاة والسلام ولا من شرط الكتاب، فقال لنا بعض شيوخنا: إن مسلمًا رحمه الله أعجبه ما ذكر في الباب، وعرف مقدار ما تعب في تحصيله وجمعه من ذلك، فأدخل بينها هذا الخبر تنبيهًا على هذا، وأنه لم يحصّل ما ذكر إلا بعد مشقة وتعب في الطلب، وهو بين، والله أعلم)
ثم يفجر لنا من الحكمة ينبوعًا سائغًا شرابه لكل وارد في فصله: إلباس العجز لباس الحكمة؛ فكم مارسنا هذه الجملة معنًى وتفصيلًا؟ وكم مُرست علينا كذلك؟ فنحن بين دروب الحياة إما في عمل نحبه أو في حكم من الناس علينا لعمل ما نحب والعكس صحيح، وعليه فقد قدح المؤلف في ذهني ونبه لي على هذا الأمر الشائع الصيت على ضرورة النزول من القصر العاجي إلى أريكة العقل وقياس الأمور بمقياسها. مثلًا نقول على شخص يحفظ القرآن: هو يحفظه ولا يفهمه. وشخص يحفظ الشعر؛ نقول عليه: ترك القرآن ويحفظ ما لا يُفيده، فكم من التثبيط والعجز الذي رميناه على كثير من الناس، وإن الواحد منا لا يعرف نفسه بالكلية ولا إمكانياتها ولا يكاد يرى له عيوبًا فما بالك بالناس؟ والحكمة تقتضي استيعاب كل هذه السبل التي سلكها الناس لتناول المعرفة وتحصيلها، فلا نضيق ما هو واسع.
والكتب بستان لكل متأمل منفعة لكل قارئ فلا يمل منه الملول، وبخاصة حين يقف القارئ أمام فصل القراءة السرعة الجردية، ويعرف أن السلف الصالح قاموا بها لتحصيل معرفة لو تمهلوا في قراءتها لأفنت عمرهم دونها، ولكانت عبئًا ثقيلًا ملزمًا عليهم إنجازها فماذا لو أفنى المتعلم عمره في قراءة سلسلة واحدة في فرع واحد من فروع العلم؟ وقد ساق المؤلف الروايات التي تثبت كلما فعليك بالكتاب لتستزيد.
ومرورًا سريعًا على فصل التصنيف التحصيلي: فإن المؤلف يحفز طلاب العلم الذي يرى في ركونهم وعدم بروزها لتعليم ما تعلوا وخوفهم من الظهور حتى يكتمل علمهم الضرر. وساق لنا المرويات على ألسنة المتعلمين الجدد كم أفاد تعليمهم ما تعلموا الكثير من الفتوحات أمام طلابهم؛ ومن ثم كان الدافع لهم لتحصيل علم جديد في كل مرة يقومون بالتدريس، وإني من الناس الذين كانوا يركبون مركب الخوف كلما ذُكر التعليم ولكن عندما قام أحد الأخوة بتشجيعي على ذلك وجدت الأمر كحرث الأرض الطيبة تؤتي أُكلها ولا تبور، وأسأل الله علمًا نافعًا وأن يكون كتابي هذا من خاليًا من السَّمعة، وأن يكون حديث النبي عليه الصلاةوالسلام نيتي من وراء ذلك: نضَّر الله امرءًا سمِع مقالَتي فوعاها وحفِظها وبلَّغها ….
الصلاة!
كم ترنمت بين دفتي الكتاب منعمًا بكلمات وتأملات وحرص المؤلف حول أداء الصلاة ولقد وجدتني أستصغر نفسي وعملي أمام تكبيرة رجل صالح ساقها المؤلف لنا في مروياته، وجعل في خاطري إضاءات أستنير بها وكيف كنت أرقب الشيخ المسن وقد بلغ نيفًا وستين وهو منكمش على ذاته يجرجر أذياله إلى المسجد ونحن الشباب في أثمال الضعف والوهن على فراش وثير. ثم المقام الأمثل بين يدي الله والتماس الخشوع الأتم لجلال الله وعظمته والكيفية التي يُناجى بها الرب المعبود والتي تحولت إلى لذة في قلوب المؤمنين من مجرد أداء لمهمة وواجب يومي إلى استمتاع بهذه العبادة الروحية كأن أرواحهم تذهب في جو السماء وتطوف ملبية لله، فتخسلها الملائكة بماء طهور وترجع طاهرة راضية تتملكها السكينة وتلفها بلباس من نور فكيف للمرء بعد ذلك أن يعصي الله إثر صلاة طهرته من جميع سقمه.
وضع الكاتب يده على جرح غائر حين أدى عنا صدقة الذكر في بر الوالدين وهل للوالدين شرط في الإحسان بل كل ما هو متوقع أو غير متوقع من طُرق البر واجب على الابن تأديته، والله صاحب الشريعة يضع الأمر الواضح البين في كتابه العزيز حين يقول: (واخفض لهما جناح الذل)، وهل بعد هذا التعبير من الله مقال لقائل أو خِيرة لمختار؟ فاقترب من والديك بخفض جناحٍ وسكون طائر يرحمك الله.
وهذا غيض من فيض ينتظرك بين يدي الكتاب وأسأل الله أن تكون كلماتي دافعًا يدفع كل قارئ للمعرفة وتحصيل العلوم، والله الموفق والمستعان.
دونكم الإقتباسات التي أعجبتني:
– من أعظم ما يعين النفس على تحمل التعب الذي تتطلبه المعالي، أن يستحضر المرء الثمرة ، وأن يستدعي في ذهنه حسن العاقبة. فإن الجدوى والمكتسب تهوّن على النفس تحمل المشاق والتعب .
– أنت في كل لحظة تنفق من رصيدك الزمني، فإما أن تشتري به علمًا وعملًا رابحًا، أو يذهب العمر في الترقب والتفرج في صفقات خاسرة .
– معالي الأمور والطموحات الكبرى في العلم والتعليم والتأليف والإصلاح والتغيير والنهضة بالأمة، لا تكشف لك وجهها حتى تمسح العرق عن جبينك بيد ترتعش من التعب والعناء.
– يقول ابن تيمية : قال إبراهيم الحربي: أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يُدرك بالنعيم.
– كثير من الناس يظن التأثر هو بمدى القناعة بالمقروء من عدمه، وهذا غير دقيق، فنمط المادة المقروءة ونوعها إذا كثر يؤثر في القارئ دون أن يشعر حتى لو لم يكن مقتنعاً بها، لأن غذاء العقل النافع يزاحمه الغذاء الفاسد.
– الثقافة المعاصرة “لغة” ومن لم يعرف لغة قوم كيف يدعوهم؟ ولذلك قال الله {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} فتدبر كيف ربط البيان باللسان، ينفتح لك باب إدراك أثر معرفة اللسان الثقافي المعاصر في البيان الشرعي.
– شيئان اثنان يملآن العقل بإعجاب ومهابة متجددين ومتزايدين،كلما كررنا النظر فيهما؛ الأفلاك المرصعة بالنجوم فوقنا، والقانون الأخلاقي داخلنا.