بقلم _ فخري أبوشليب
أعتقد أنه من العبث إسداء النصح لأحد ، فالمسدي إليه – إذا كان حصيفاً – يستغني عن النصيحة ، وإذا كان غبياً عنيداً فلن ينتفع بها ، فضلاً عن أن الناصح ينظر للأمور من وجهة نظره الشخصية ، وفقاً لثقافته وطبيعة تكوينه وظروفه الخاصة …
لكني – من باب الذوق – أنصت إلي من يلفتون نظري إلي ماينبغي وما لا ينبغي أن أفعل ، مقدراً أنهم يقصدون الخير ، وكي أمنحهم الشعور بالحكمة و رجاحة العقل ، وبطبيعة الحال لن يتابعني أحدهم ليعرف مدي اتباعي نصائحه .
والنصيحة التي أثارت دهشتي هي تلك التي قالها – بما يشبه التحذير – صديق قديم ،
قال ” إذا باعدت الأيام والظروف بينك وبين صديق أو زميل قديم ، أو أحد المعارف ، ثم لقيته مصادفة ، كن حريصاً ، حريصاً جداً …. ”
فكرت أنه يقصد أن الناس يتغيرون ، فهناك من كان غنياً ، ثم أصابته الفاقة ، والعكس صحيح ، ومن كنت تظن أنه يحفظ الجميل فيتبين أنه جاحد ، ومن كان يسعي إليك مشتاقاً ثم صار يقابلك بفتور وعدم اكتراث ، ومن تكون قد أسأت إليه يوما دون قصد فينتهز الفرصة لرد الإساءة ….
وعلي أية حال فهي أمور لا تستحق الحرص الشديد الذي دعت إليه النصيحة ، كي أتجنب الشعور بالحرج أو الاستياء .
ولما كرر الصديق النصيحة في أكثر من موقف سألته عن التفاصيل فقال : ” كان لي أيام الوظيفة زميل قديم ، وقبل أن يتم نقلي إلي العاصمة كانت بيننا زمالة طيبة ، لكنها لم ترق لمستوى الصداقة . وانقطعت أخباره لمدة سنوات ، وبعد خروجي للمعاش عدت للإقامة في مسقط رأسي مدفوعاً بالحنين إلي أيام جميلة خلت .
وذات مساء شتوي بارد كان المطر قد توقف ، ولا زالت آثاره تكسو الشوارع ، لكن السماء كانت تنذر بمعاودة الأمطار . ورأيته يعبر الطريق مسرعاً وهو مرتد معطفاً ثقيلاً ، وعرفته علي الفور فهو لم يتغير كثيراً ، سوي أن وزنه ازداد قليلاً ونبتت له لحية بيضاء .
ناديته فالتفت إليّ وخطا نحوي مسرعاً .. مددت يدي لأصافحة فأمسك بياقة سترتي بقوة . عندئذ لم أري سوي عينيه ، كان بهما بريق مخيف و كانت إحداهما تبدو وكأن حولاً مفاجئاً قد أصابها .
أخرج سكيناً من جيب معطفه ، وكان لنصله نفس وميض عينيه . همس بصوت كالفحيح ” لا تخف سأريحك منه ولن تشعر بشئ ” …
لم أصبر حتى النهاية فسألت ناصحي : ما الذي كان معك ليريحك منه ؟
ضحك وقال : نجوت بأعجوبة ، يبدو أنه عدل عن فكرته فجأة وبدون سبب فقد وضع النصل في جيبه ، وتلفت يميناً ويساراً ، ثم مضي في طريقه لا يلوي علي شئ .
ومضت عدة سنوات أمضيتها خارج الوطن ولم أري فيها صاحب النصيحة المذكورة ، حتي لمحته بالأمس واقف علي الجانب المقابل من شارع البحر يحمل حقيبة صغيرة وكان المطر قد توقف ، لكن آثاره لا زالت تكسو الشوارع . لم يتغير كثيراً ، لكنه بدا محتاجاً لمن يساعده علي عبور الطريق .
تذكرت نصيحته القديمة ، وترددت قليلاً قبل أن أخطو إليه مسرعاً ومنادياً .